DONATE
Jumaat, 18 Julai 2008
قواعد الفقهية
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
المدخل إلى القواعد الفقهية
معنى القواعد الفقهية
1- التعريف باالقاعدة
القاعدة معناها: في اللغة الأساس وقواعد البيت أساسه فقاعدة كل شيء أساسه. قال تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم –البقرة 128
والقواعد عند اصطلاح الفقهاء : كل أمر كلي ينطبق على جميع جزئياته غالبا كقولهم الأمور بمقاصدها وتسمى في اصطلاح القانوني المبدأ لأن كل أمر كلى يكون تحته جزئيات ينطبق عليها فالقاعدة أمر كلى عام.
والقاعدة تمتاز بمزيد الإيجاز في صياغتها و عموم معناها و سعة استيعابها للفرع الجزئية، فتصاغ عادة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم.
وهذه القواعد أحكام أغلبية غير مطردة ، وهى إنما تصور الفكرة الفقهية المبدئية لحل القضايا ، إلا أنه قد يعدل عن هذه القواعد في بعض المسائل ، لمقتضيات خاصة بتلك المسائل تجعل الحكم الاستثنائي أقرب إلى مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة و جلب المصالح و درء المفاسد و دفع الحرج . ولهذا كان من الملاحظ أن يتنبه المناظر في هذه القواعد فهي دساتير التفقه لا نصوص للقضاء.
2- التعريف بالفقه
الفقه في اللغة هو الفهم، يقال فقه الشيء أي فهمه، قال تعالى قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما نقول-هود 91-
والفقه في الاصطلاح : هو الحكم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
الفرق بين القاعدة و الضابط
القاعدة : هي الأمر الكلى المبنى على دليل يتعرف منه أحكاما جزئية غالبا و موضوعها ليس معينا بل تكون جزئياتها منتشرة و مبثوثة في جميع أبواب الفقه التي دونها العلماء، و فيما يتعرض الناس له من أحداث حتى يرث الله الأرض وما عليها فهي تجمع بين الأشباه والنظائر ولو كانت في أبواب الفقه المختلفة.
الضابط : فهو الأمر الكلي الذي لا يعتمد على دليل، فإذا وجد له دليل فإنه يكون قاعدة و أجزاؤه كله من نوع واحد لأن موضوعها معين.
أهمية دراسة القواعد الفقهية
ولنعرف أهمية دراسة القواعد الفقهية فيكتفي أن أعرض ما قاله الإمام شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه المسمى "أنوار البروك في أنواء الفروق". هذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع و يقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه و يشرف ويظهر رونق الفقيه و يعرف و يتضح مناهج الفتاوى وتكشف فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء وبرز القارح على الجذع وحاز قصب السبق من فيها برع ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت و تزلزلت خواطره فيها واضطربت وضاقت نفسه لذلك وقنطت واحتاج لحفظ الجزئيات التي لا تناهي، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتخذ عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشائع البعيد وتقارب ،وحصل طلبته في أقرب الأزمان وانشرح صدره لمن أشرف فيه من البيان، فبين المقامين شأو وبعيد وبين المنزلتين تفاوت شديد.
ومع ما لهذه القواعد من استثناءات ، فلها قيمة علمية وموقع كبير في الفقه ،ففيها تصوير بارع للمبادئ والمقررات الفقهية العامة وكشف لمسالكها النظرية، وضبط لفروع كثيرة، في قواعد معدودة.
فمن أهم ثمرات دراستها الإلمام بكثير من الأشباه والنظائر ليمكن الإلحاق التخريج حتى لا تبقى الفروع مشتتة ، ليس لها أصل يمسكها ويلم شعثها.
لمحة تاريخية عن القواعد الكلية
هذه القواعد لم توضع جملة واحدة في وقت معين على أيدي أناس معلومين ، بل تكونت بالتدرج في عصور ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار الفقهاء المذاهب من أهل الترجيح و التخريج استنباطا من دلالات النصوص وعلل الأحكام و المقررات العقلية.
ولقد حكى القاضي أبو سعيد الهروي أن بعض أئمة الحنفية بهراة أبلغه أن الإمام أبا طاهر إلدباس وهو إمام الحنفية بما وراء النهر رد جميع مذهب أبى حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، فسافر إليه، وكان أبو طاهر ضريرا وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه فالتف الهري بحصير، وخرج الناس واغلق أبو طاهر المسجد وسرد من تلك القواعد سبعا، فحصلت للهروى سلعة، فأحسّ به أبو طاهر، فضربه وأخرجه من المسجد، ثم لم يكررها فيه بعد ذلك، فرجع الهروي إلى أصحابه وتلا عليهم تلك السبع.
واعلم أن مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان هو أول المذاهب الإسلامية التي طبقت هذه القواعد بعد أن صاغتها، ثم نقلها عنهم علماء المذاهب الأخرى، ولعل أول من دون بعض القواعد في المذهب الحنفي هو أبو طاهر الدبّاس المذكور.
قيل : أول مجموعة وصلت إلينا في شكل رسالة هي قواعد الكرخي المتوفى سنة 340 هـ من علماء الأحناف وهو في سبع و ثلاثين قاعدة، ويبدو أن الكرخي قد أخذ قواعد الدبّاس ثم أضافت إليها بعض قواعد أخرى. ثم جاء الإمام أبو زيد عبد الله الدبوسي الحنفي فوضع كتابه تأسيس النظر، ثم جاء أبن نجيم الحنفي فجمع خمسا وعشرين قاعدة، ثم تتابع علماء المذاهب الأخرى في التأليف و الكتابة في قواعد الفقه الكلية، وبلغت الذروة في التأليف في القرن الثامن الهجري الذي يعتبر أعظم عهود التأليف و الكتابة فيها .
أشهر الكتب التي اعتنت في التقعيد
1. قواعد الكرخي المتوفى سنة 340 ه :وقد شرحها ابن نجيم النسفي المتوفى سنة 537ه
2. قواعد الأحكام : لابن عبد السلام الشافعي المتوفى سنة 660ه
3. الفروق : للإمام القرافي المالكي المتوفى سنة 684ه
4. القواعد : لابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795ه
5. الأشباه والنظائر : للإمام السيوطي المتوفى سنة 911ه
6. الأشباه و النظائر : لابن نجيم الحنفي ، ولد بالقاهرة عام 926ه وتوفى سنة 970ه
7. الأشباه والنظائر : للإمام السبكي الشافعي
الدليل على الأمر بتتابع النظائر و حفظها
كتب عمر ابن الخطاب إلى أبى موسى الأشعري حيث فيه "أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك ،فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له،لا يمنعنك قضاء قضيته، راجعت فيه نفسك ، وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجع الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك، مما لا يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأمثال و الأشباه، ثم قس الأمور عندك،فاعمد إلى أحبها إلى الله و أشبهها بالحق فيما ترى".
هذه قطعة من كتابه، وهى صريحة في الأمر بتتبع النظائر وحفظها ليقاس عليها ما ليس بمنقول. وهو دال على أن الفقه معرفة النظائر.
عدد القواعد الفقه الكلية
بعض المجتهدين مثل العز بن عبد السلام أرجع جميع مسائل الفقه المختلفة إلى قاعدة واحدة و هي جلب المصالح ودرء المفاسد بل إنه ارجع الجميع إلى جلب المصالح لأنه متى تحققت المصلحة درئت المفاسد.
وبعض المجتهدين مثل القاضي حسين الشافعي رد جميع مسائل الفقه الشافعي إلى أربع قواعد وهى:
1. اليقين لا يزال بالشك
2. المشقة تجلب التيسير
3. الضرر يزال
4. العادة محكمة
وقد ضم بعض الفضلاء إلى هذه الأربعة قاعدة خامسة وهى الأمور بمقاصدها لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" وقوله "بنى الإسلام على خمس والفقه على خمس".
وجميع مسائل الفقه ترجع إلى هذه القواعد الأربع أو الخمس إما مباشرة أو بواسطة قواعد أخرى متفرعة عليها فيلزم القيام بفهم هذه القواعد أولا ثم معرفة القواعد التي تفرعت عنها.
وقواعد الفقه تزيد على المئين حسب ضبط المجتهدين، لأن إرجاع جميع مسائل الفقه إلى هذه القواعد مبنى على اختلافهم في الاجتهاد والتطبيق ، ولذلك اختلف أنظارهم في حصر العدد.
الباب الأول:
القاعدة الأولى : الأمور بمقاصدها
فيها مباحث :
المبحث الأول: الأصل في القاعدة
لقد تكلمنا في الفرق بين القاعدة والضابط فالقاعدة لا بد لها من دليل. والدليل على هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" وهذا الحديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر ابن الخطاب.
وفى سنن البيهقي من حديث أنس "نية المؤمن خير من عمله". وفى السنن الأربعة من حديث عقبة بن عامر "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة، وفيه وصانعه يحتسب في صنعته الأجر"
المبحث الثاني : الأمثلة على القاعدة من الفروع
أولا: العبادات
من ذلك الوضوء والغسل فرضا ونفلا، ومسح الخف في مسالة الجرموق إذا مسح الأعلى وهو ضعيف فينزل البلل إلى الأسفل والتيمم والصلاة بأنواعها سواء كانت فرض عين أوكفاية أو راتبة أو سنة أو نفلا مطلقا، والقصر وأداء الزكاة، واستعمال الحلي أو كنزه، والصوم فرضا أو نفلا والاعتكاف والحج والعمرة ونحوها. وكذلك الفداء والهدايا والضحايا والجهاد والعتق والنكاح وسائر القرب، بمعنى توقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى. ويسرى ذلك إلى سائر المباحـات إذا قصد بها التقوى على العبادات أو التوصل إليها كالأكل والنوم واكتساب المال وغير ذلك.
ثانيا : العقود ونحوها
من ذلك كنايات البيع والهبة والوقف والقرض والضمان والإبراء ونحوها. ويدخل فيها أيضا غير الكنايات في مسائل شتى، كقصد لفظ الصريح لمعناه ، ونية المعقود عليه في المبيع و الثمن ونحوها.
ثالثا: الحدود.
منها تمييز العمد من الخطأ، ومنها إذا قتل الوكيل في القصاص إن قصد قتله عن الموكل أو قتله بشهوة نفسه، وفى الردة وفى السرقة فيما إذا أخذ آلات الملاهي بقصد كسرها وإشهارها أو بقصد سرقتها ، وفى اللقطة بقصد الحفظ أو التمليك.
رابعا : فيما عدا ذلك.
وتدخل النية أيضا في عصير العنب بقصد الخلية و الخمرية وفى الهجر فوق ثلاثة أيام فإنه حرام إن قصد الهجر وإلا فلا.
ونظيره أيضا : ترك الطيب و الزينة فوق ثلاثة أيام لموت غير الزوج ، فإنه إن كان يقصد الإحداد حرم وإلا فلا.
وتدخل أيضا في نية قطع السفر و قطع القراءة في الصلاة وقراءة القرآن جنبا بقصده أو بقصد الذكر و في الصلاة بقصد الإفهام وفى غير ذلك.
المبحث الثالث : فيما شرعت النية لأجله
المقصود الأهم من النية : تمييز العبادات عن العادات وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض، كالوضوء والغسل يتردد بين التنظيف والتبرّد والعبادة. فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها وكل من الوضوء والغسل قد يكون فرضا ونذرا ونفلا ، وصورتهما واحدة. فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها من بعض.
وترتب على ذلك أمور :
الأمر الأول : عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها.
وذلك كالإيمان بالله ، وقراءة القرآن والأذكار لأنه متميزة بصورتها. نعم يجب قراءة القرآن إذا كانت منذورة لتمييز الفرض من غيره نقله القمولي في الجواهر عن الروياني وأقره.
وأما التروك كترك الزنا وغيره ، فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي وكونه لم يوجد، وإن يكن نية، نعم يحتاج إليها في حصول الثواب المترتب على الترك.
ضابط : قال بعضهم ليس لنا عبادة يجب العزم عليها ولا يجب فعلها سوى الفار من الزحف لا يجوز إلا بقصد التحيز إلى فئة، وإذا تحيز إليها لا يجب القتال معها في الأصح، لأن العزم مرخص له في الانصراف لا موجب للرجوع.
الأمر الثاني : اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره
قال في شرح المهذب ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" فهذا ظاهر في اشتراط التعيين، لأن أصل النية فهم من أول الحديث "إنما الأعمال بالنيات"
فمن الأول : الصلاة : فيشترط التعيين في الفرائض ، لتساوى الظهر والعصر فعلا و صورة فلا تمييز بينهما إلا بالتعيين. وفى النوافل المطلقة كالرواتب فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلا، وكونها التي قبلها أو التي بعدها كما جزم به في شرح المهذب.
ومن ذلك الصوم : والمذهب المنصوص الذي قطع به الأصحاب اشتراط التعيين فيه لتمييز رمضان من القضاء والنذر والكفارة والفدية، وعن الحليمي وجه أنه لا يشترط في رمضان. قال النووي وهو شاذ مردود. نعم لا يشترط السنة على المذهب.
ونظيره في الصلاة أنه لا يشترط تعيين اليوم لا في الأداء ولا في القضاء ، فيكفى فيه فائتة الظهر مثلا.
وقياس ما تقدم في النوافل المرتبة اشتراط التعيين في رواتب الصوم كعاشوراء، وصوم عرفة وأيام البيض. وقد ذكره في شرح المهذب بحثا ولم يقف على نقل فيه وهو ظاهر.
ومن الثاني : أي ما لا يشترط فيه التعيين : الطهارات والحج والعمرة لأنه لو عيّن غيرها انصرف إليها وكذا الزكاة والكفارات.
ضابط : قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب "كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها إلا التيمم للفرض في الأصح".
قاعدة:
1. ما لا يشترط التعرض له جملة وتفصيلا إذا عينه وأخطأ لم يضر كتعيين مكان الصلاة وزمانها
2. ما يشترط فيه التعيين فالخطأ فيه مبطل كالخطأ من الصوم إلى الصلاة وعكسه.
3. وما يجب التعرض له جملة ولا يشترط تعيينه تفصيلا إذا عينه و أخطأ ضر كمن نوى الإقتداء بزيد فبان عليا لم يصح.
الأمر الثالث : ما يترتب على ما شرعت النية لأجله وهو التمييز –اشتراط التعرض للفرضية.
والعبادات في التعرض للفرضية على أربعة أقسام:
1. ما يشترط فيه بلا خلاف وهو الكفارات
2. ما لا يشترط فيه بلا خلاف وهو الحج و العمرة والجماعة
3. ما يشترط على الأصح وهو الغسل والصلاة والزكاة بلفظ الصدقة
4. ما لا يشترط فيه على الأصح وهو الوضوء والصوم والزكاة بلفظها والخطبة
الأمر الرابع : اشتراط الأداء والقضاء
في اشتراط الأداء و القضاء في الصلاة أوجه ؛أحدها الاشتراط. واختاره الإمام الحرمين. والثاني يشترط نية القضاء دون الأداء والثالث إن كان عليه فائتة اشتراط المؤداة نية الأداء وإلا فلا وبه قطع الماوردي، والرابع وهو الأصح لا يشترط مطلقا.
ما لا يوصف من العبادات بأداء ولا قضاء فلا ريب في أنه لا يحتاج إلى نية أداء ولا قضاء ويلحق بذلك ما له وقت محدود ولكنه لا يقبل القضاء كالجمعة فلا يحتاج فيها إلى نية الأداء، إذ لا تلتبس بها قضاء.
وأما الصوم فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها. وقد صرح به في "التتمة" فجزم باشتراط التعرض فيه لنية القضاء دون الأداء لتمييزه بالوقت.
الأمر الخامس : مما يترتب على التمييز : الإخلاص
ومن ثم لم يقبل النيابة، لأن المقصود اختبار سر العبادة ، قال ابن القاص وغيره لا يجوز التوكيل في النية إلا فيما اقترنت بفعل ، كتفرقة الزكاة وذبح أضحية وصوم عن الميت وحج.
وقال بعض المتأخرين؛ الإخلاص أمر زائد على النية لا يحصل بدونها ، وقد تحصل بدونه. ونظر الفقهاء قاصر على النية وأحكامهم إنما تجرى عليها، وأما الإخلاص فأمره إلى الله، ومن ثم صححوا عدم وجوب الإضافة إلى الله في جميع العبادات.
ثم للتشريك في النية نظائر وضابطها أقسام :
القسم الأول : أن ينوى مع العبادة ما ليس بعبادة
وقد يبطلها ومن صوره ما إذا ذبح الأضحية لله و لغيره فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة، ويقرب من ذلك ما لو كبر للإحرام مرات ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار، ويخرج بالأشفاع، لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت صلاته، لأنه يتضمن قطع الأولى ،فلو نوى الخروج بين التكبيرتين خرج بالنية ودخل بالتكبيرة. فلو لم ينو بالتكبيرات شيئا ، لا دخولا ولا خروجا صح دخوله بالأولى والبواقي ذكر.
وقد لا يبطلها : وفيه صور : منها لو نوى الوضوء أو الغسل و التبرّد ففي وجه لا يصح للتشريك ، والأصح الصحة، لأن التبرد حاصل، قصده أم لا. فلم يجعل قصده تشريكا وتركا للإخلاص بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها لأن في ضرورته حصول التبرد. ومنها ما لو نوى الصوم أو الحمية أو التداوى وفيه الخلاف المذكور.
ومنها ما لو نوى الصلاة ودفع غريمه صحت صلاته لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد وفيه وجه خرجه صاحب الشامل في مسألة التبرد.
و منها : ما إذا قرأ في الصلاة أيةً قصد بها القراءة والإفهام فإنها لا تبطل.
و من نظائر ذلك : مسألة السفر للحج والتجارة . والذي اختار ابن عبد السلام أنه لا أجر له مطلقا ، تساوى القصدان أم لا ، واختار الباعث على العمل ، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، وإن كان الديني أغلب كان له الأجر بقدره ، وإن تساويا تساقطا.
قال السيوطي : المختار قول الغزالي. ففي الصحيح و غيره "إن الصحابة تأثموا أن يتجروا في الموسم بمنى" فنزلت {ليس عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم }- البقرة 198 - في مواسم الحج.
القسم الثاني : أن ينوى مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة و فيه صور :
ا- ما لا يقتضي البطلان ويحصلان معا
منها أحرم بصلاة و نوى بها الفرض و التحية صحت وحصلا معا. قال في شرح المهذب اتفق عليه أصحابنا، قال السيوطي " ولم أر فيه خلافا بعد البحث الشديد سنين". وقال الرافعي وابن صلاح "لا بد من جريان خلاف فيه كمسألة التبرد." قال النووي : "والفرق ظاهر ، فإن الذي اعتمده الأصحاب في تعليل البطلان في مسألة التبرد هو التشريك بين القربة وغيرها. وهذا مفقود في مسألة التحية ، فإن الفرض والتحية قربتان، إحداهما تحصل بلا قصد فلا يضر فيها القصد."
ومنها نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعا على الصحيح وفيه وجه، والفرق بينه و بين التحية حيث لم يجر فيها، أنها تحصل ضمنا ولو لم ينوها ، وهذا بخلافها.
ب- ما يحصل الفرض فقط :
نوى بحجه الفرض والتطوع وقع فرضا، لأنه لو نوى التطوع انصرف إلى الفرض.
ومنها لو صلى الفائتة في ليالي رمضان ونوى معها التراويح ، ففي فتاوى ابن صلاح حصلت الفائتة دون التراويح. قال الإسنوي وفيه نظر لأن التشريك مقـتض للإبطال.
ج- ما يحصل النفل فقط
منها اخرج خمسة دراهم ونوى بها الزكاة و صدقة التطوع لم تقع زكاة ووقعت صدقة تطوع بلا خلاف.
منها ما لو خطب بقصد الجمعة والكسوف لم يصح للجمعة لأنه تشريك بين الفرض والنفل، جزم به الرافعي.
ه- ما يقتضي البطلان في الكل
كبر المسبوق والإمام راكع تكبيرة واحدة ، ونوى بها التحرم والهوى إلى الركوع ، لم تنعقد الصلاة أصلا ، للتشريك ، وفى وجه تنعقد نفلا كمسألة الزكاة.
ومنها : نوى بصلاته الفرض والراتبة لم تنعقد أصلا.
القسم الثالث : أن ينوى مع المفروضة فرضا آخر
قال ابن السبكي : ولا يجزئ ذلك إلا في الحج والعمرة.
قال السيوطي : بل لهما نظير وهو أن ينوى الغسل والوضوء معا فإنهما يحصلان على الأصح ، وفى قول نص عليه في الأمالي لا يحصلان لأنهما واجبان مختلفان فلا يتداخلان كالصلاتين. وكذلك لو طاف بنية الفرض والوداع صح للفرض، وهل يكفى للوداع؟ حتى لو خرج عقبه أجزأه ولا يلزم دم؟ لم ير السيوطي نقلا صريحا وهو محتمل ، وربما يفهم من كلامهم أنه لا يكفي.
وما عدا ذلك إذا نوى فرضين معا بطلا ، إلا إذا احرم بحجتين أو عمرتين فإنه ينعقد واحدة وإذا تيمم لفرضين صح لواحد على الأصح.
القسم الرابع : أن ينوى مع النفل نفلا آخر
فلا يحصلان . قاله القفال ونقض عليه بنية الغسل للجمعة والعيد فإنهما يحصلان. قال السيوطي : وكذا لو اجتمع عيد وكسوف خطب لهما خطبتين بقصدهما جميعا، ذكره في أصل الروضة وعلله بأنهما سنتان بخلاف الجمعة والكسوف.
القسم الخامس: أن ينوى مع غير العبادة شيئا آخر غيرها وهما مختلفان في الحكم
ومن فروعه : أن يقول لزوجته : أنت علي حرام ، وينوى الطلاق والظهار ، فالأصح أن يخير بينهما فما اختاره ثبت . وقيل يثبت الطلاق لقوته . وقيل الظهار لأن الأصل بقاء النكاح.
المبحث الرابع : في وقت النية
الأصل أن الوقت أول العبادات ونحوها. وخرج عن ذلك الصوم فجوِّز تقديم نيته على أول الوقت ، لعسر مراقبته. ثم سرى ذلك إلى أن وجب . فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح . قال السيوطي : وعلى حده جواز تأخير نية صوم النفل عن أوله.
وبقى نظائر يجوز فيها تقديم النية على أول العبادة منها الزكاة في الأصح، والكفارة في أحد وجهين، والجمع ونية التمتع على الوجه القائل به ونية الأضحية وفى غير العبادة.
تنبيهات :
الأول : ما أوله من العبادات ذكر وجب اقترانها بكل اللفظ ، وقيل يكفى بأوله.
ومن ذلك الصلاة : ومعنى اقترانها بكل التكبير ، أن يوجد جميع النية المعتبرة عند كل حرف منه، ومعنى الاكتفاء بأوله ، أنه لا يجب استصحابها إلى آخره، واختاره الإمام الغزالي.
الثاني : قد يكون للعبادة أول حقيقي و أول نسبى ، فيجب اقتران النية بهما.
من ذلك التيمم ، فيجب اقتران نيته بالنقل لأنه أول المفعول من أركانه ، وبمسح الوجه ، لأنه أول الأركان المقصودة والنقل وسيلة إليه. وكذلك الوضوء والغسل فيجب للصحة اقتران نيتها بأول مغسول من الوجه و البدن، ويجب للثواب اقترانهما بأول السنن السابقة ، ليثاب عليها ، فلو لم يفعل لم يثب عليها في الأصح لأنه لم ينوها.
الثالث : العبادات ذات الأفعال يكتفي بالنية في أولها ، ولا يحتاج إليها في كل فعل ، اكتفاء بانسحابها عليها.
وذلك كالوضوء والصلاة وكذا الحج فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية على الأصح.
المبحث الخامس : في محل النية
محلها القلب في كل موضع ، لأن حقيقتها القصد مطلقا . وقيل المقارن للفعل وذلك عبارة عن فعل القلب . قال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يرى موافقا في جلب نفع و دفع ضر ، حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه.
والحاصل أن هناك أصلين :
الأصل الأول : أنه لا يكفى التلفظ باللسان دونه كما لو اختلف اللسان والقلب والعبرة بما في القلب ، فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد صح الوضوء أو عكسه فلا .
واستثنى مواضع يكتفي فيها باللفظ على رأى ضعيف منها الزكاة وما إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو وكذلك إذا احرم مطلقا.
الأصل الثاني : وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه ، ففيه فروع كثيرة : منها كل العبادات وكذلك إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا ، فإنها تصير مسجدا بمجرد النية ولا يحتاج إلى لفظ.
وخرج عن هذا الأصل صور : بعضها على رأى ضعيف
منها الإحرام : ففي وجه أو قول أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي ، والأصح أنها لا شرط ولا واجبة فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء.
ومنها ما لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ لم ينعقد النذر ولم يقع الطلاق.
ومنها اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء ، لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ.
ومنها باع بألف وفى البلاد نقود لا غالب فيها ، فقبل ونويا نوعا، لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا.
وفى نظيره من الخلع : يصح في الأصح لأنه يفتقر فيه ما لا يفتقر في البيع .
ومنها ما لو قال "أنت طالق"، ثم قال أردت إن شاء الله لم يقبل.
ومنها من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها ، لا يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به".
المبحث السادس : في شروط النية
الشرط الأول : الإسلام
ومن ثم لم تصح العبادات من الكافر ، وقيل يصح غسله دون وضوءه وتيممه ، وقيل يصح وضوءه أيضا، وقيل يصح التيمم أيضا ،ومحل الخلاف في الأصلي . وأما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره، كذا قال الرافعي لكن في شرح المهذب أن جماعة أجروا في المرتد.
وخرج من ذلك صور :
الأولى : الكتابيات تحت المسلم يصح غسلها عن الحيض.
الثانية : الكفارات تصح من الكافر ويشترط منه النية.
الثالثة : إذا خرج المرتد الزكاة في حال الردة تصح وتجزيه.
الرابعة : قال القاضي القضاة جلال الدين البلقيني، أنه يصح صوم الكافر في صورة وذلك إذا أسلم، وإن وافق أول إسلامه الطلوع، وهذا إذا نوى النفل صح على الأرجح ولا أثر لما وجد من موافقة أول الإسلام الطلوع.
الشرط الثاني : التمييز
فلا تصح عبادة صبى لا يميز ، ولا مجنون ، وخرج عن ذلك الطفل يوضئه الولي للطفل حيث يحرم عنه ، والمجنونة يغسلها الزوج عن الحيض وينوي على الأصح.
ومن فروع هذا الشرط مسألة عمد الصبي والمجنون، عمدهما في الجنايات هل هو عمد أو لا ؟ لأنه لا يتصور منها القصد ، وصححوا أن عمدهما عمد، وخص الأئمة الخلاف بمن له نوع تمييز، فغير المميز منها عمده خطأ قطعا، ونظير ذلك السكران لا يقضى عليه بالحدث حتى يستغرق دون أول النشوة وكذا حكم صلاته وسائر أفعاله.
الشرط الثالث : العلم بالمنوي
قال البغوي وغيره : فمن جهل الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها ، وإن علم الفرضية وجهل الأركان، فإن اعتقد الكل سنة أو البعض فرضا والبعض سنة ولم يتميزها لم تصح قطعا . أو الكل فرضا فوجهان : أصحهما الصحة لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر. ومن فروعه ما لو نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها وقال قصدت بها معناها بالعربية فإنه لم يقع.
الشرط الرابع : أن لا يأتي بمناف
فلو ارتد أثناء الصلاة أو الصوم أو الحج أو التيمم بطل ، أو الوضوء أو الغسل لم يبطلا، لأن أفعالهما غير مرتبطة ببعضها. ولكن لا يحتسب المغسول في زمن الردة . ولو ارتد بعد الفراغ فالأصح أنه لا يبطل الوضوء والغسل ويبطل التيمم لضعفه. ولو وقع ذلك بعد فراغ الصلاة أو الصوم أو الحج أو أداء الزكاة لم يجب عليه الإعادة.
من المنافي ما يلي :
أولا : نية القطع
ومن فروعه ، نوى قطع الإيمان –والعياذ بالله- صار مرتدا في الحال، وكذا لو نوى قطع الصلاة أثناءها ،بطلت بلا خلاف لأنها شبيهة بالإيمان. لو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها لم تبطل بالإجماع وكذا سائر العبادات. وفى الطهارة وجه لآن حكمها باق بعد الفراغ. وكذلك نوى قطع الطهارة أثناءها لم يبطل ما مضى في الأصح ولكن يجب تجديد النية لما بقى.
ثانيا : عدم القدرة على المنوي إما عقلا وإما شرعا وإما عادة
فمن الأول نوى بوضوئه أن يصلى صلاة وألا يصليها لم يصح لتناقضه.
ومن الثاني نوى به الصلاة في مكان نجس ، قال في شرح المهذب عن البحر "ينبغي أن لا يصح".
ومن الثالث نوى به صلاة العيد وهو في أول السنة أو الطواف وهو بالشام ففي صحته خلاف حكاه في الأول الرويانى وفى الثاني بعض المصنفين . قال السيوطي : لكن الأصح الصحة كما جزم به في التحقيق، وحكاه في شرح المهذب عن البحر وأقره.
ثالثا : التردد وعدم العزم
ومن فروعه : تردد هل يقطع الصلاة أو لا؟ أو علق إبطالها على شيء، بطلت، وكذا في الأيمان.
ومنها تردد في أنه نوى القصر أم لا و هل يتم أم لا ؟ لم يقصر.
منها عليه فائتة ، فشك هل قضاها أو لا ، فقضاها ثم تيقنها لم تجزئه.
منها هجم فتوضأ بأحد الإناءين لم يصح وضوءه ، وإن بان أنه توضأ بالطاهر.
وخرج من ذلك صور :
من التردد ما يلي :
اشتبه عليه ماء و ماء الورد لم يجتهد ، بل يتوضأ بكل مرة ويفتقر التردد في النية للضرورة.
منها : عليه صلاة من خمس، فنسيها فصلى الخمس ، ثم تذكرها ، قال في شرح المهذب لم أر فيه نقلا.
ومنها من صلى منفردا ثم أعاد مع جماعة ونوى الفرضية كما هو المشهور ثم بان فساد الأولى ، فإن الثانية تجزؤه. ولا يلزم الإعادة ، صرح به الغزالي في فتاواه.
ومنها عليه صوم واجب لا يدرى هل هو من رمضان أو نذر أو كفارة ، فنوى صوما واجبا أجزأه.
وأما من التعليق ما يلي :
الحج بأن يقول مريد الإحرام ، إن كان زيد محرما فقد أحرمت فإن كان زيد محرما انعقد إحرامه ، وإلا فلا.
ومنها في الصلاة وشك في قصر إمامه فقال : إن قصر قصرت وإلا أتممت ،فبان قاصر قصر، جزم به الأصحاب.
ومنها في الصوم : نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد ، إن كان من رمضان فهو فرض ، وإن لم يكن فتطوع. صحح السبكي والإسنوي: أنه يصح ويجزيه ولا يضر هذا التعليق ، قال السيوطي وهو المختار . والمرجح في أصل الروضة خلافه.
المبحث السابع : في أمور متفرقة
اختلف الأصحاب هل النية من ركن العبادة أو الشرط:
فاختار الأكثر أنها ركن ، لأنها داخل العبادة . وذلك شأن الأركان . والشرط ما يتقدم عليها ، ويجب استمراره فيها.
واختار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ أنه شرط ، وإلا لافتقرت إلى نية أخرى تندرج فيها. كما في اجزاء العبادات فوجب أن تكون شرطا خارجا عنها.
والأولون انفصلوا عن ذلك بلزوم التسلسل.
واختلف كلام الغزالي في ذلك فعدها في الصوم ركنا وقال في الصلاة هي بالشرط أشبه، ووقع العكس من ذلك في كلام الشيخين ، فإنهما عداها في الصلاة ركنا وقالا في الصوم "النية شرط الصوم" . وهذا يمكن أم يكون له من جهة أنها في الصوم مقدمة عليه. وقال العلائي، يمكن أن يقال ما كانت النية معتبرة في صحته فهي ركن فيه ، وما يصح بدونها، ولكن يتوقف حصول الثواب عليها كالمباحات والكف عن المعاصي ، فنية التقرب شرط في الثواب.
قاعدة : قال الرافعي وتبعه في الروضة : النية في اليمين تخصص اللفظ العام، ولا تعمم الخاص.
مثال الأول : أن يقول : والله لا أكلم أحدا وينوى زيدا . ومثال الثاني : أن يمن عليه رجل بما نال منه ، فيقول : والله لا أشرب منه ماء من عطش. فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة ولا يحنث بطعامه و ثيابه.
قاعدة : مقاصد اللفظ على نية اللافظ
ومن فروعها : أدخل الجنب يده في الإناء بعد النية ،أو المحدث بعد غسل الوجه ، فإن نوى رفع الحدث صار مستعملا ، أو الإغتراف فلا .أو أطلق فوجهان : أصحهما يصير.
ومن نظيره : لو قال لعلوي لست ابن على وقال أردت لست من صلبه بل بينك وبينه أباء فلا حد ، أو قصد القذف حد ، وإن أطلق وقال لم أردت شيئا لم يحد ، جزم به في زوائد الروضة.
وخرج عن ذلك صورة واحدة وهى اليمين عند القاضي، فإنها على نية القاضي دون الحالف إن كان موافقا له في الاعتقاد ، فإن خالفه كحنفي استحلف شافعيا في شفعة الجوار ، ففيمن تعتبر نيته ؟ وجهان : أصحهما القاضي أيضا.
بعض الصور التي خرجت من هذا الأصل فتأدى فيها الفرض بنية النفل ،
قال النووي في شرح الوسيط ضابطها أن تسبق نية تشمل الفرض والنفل جميعا ، ثم يأتي بشيء من تلك العبادات ، ينوى به النفل ، ويصادف بقاء الفرض عليه.
قال السيوطي : هذا الضابط منتقض طردا وعكسا.
منها : جلس للتشهد الأخير وهو يظنه الأول ، ثم تذكر أجزأه .
ومنها نوى الحج أو العمرة أو الطواف تطوعا وعليه الفرض ، انصرف إليه بلا خلاف.
خاتمة
تجرى قاعدة الأمور بمقاصدها في العلم العربية أيضا .
فالأول ما اعتبر ذلك في الكلام فقال سيبويه و الجمهور ، باشتراط القصد فيها. فلا يسمى كلاما ما نطق به النائم والساهي وما تحكيه الحيوانات المعلمة ، وخالفه بعضهم فلا يشترطه ، وسمى كل ذلك كلاما ، واختاره أبو حيان .
وفرع على ذلك من الفقه : ما إذا حلف لا يكلمه فكلمه نائما أو معنى عليه، فإنه لا يحنث، كما جزم به الرافعي.
ولو قرأ حيوان أية سجدة ، قال الإسنوي فكلام الأصحاب مشعر بعدم استحباب السجود لقراءته ، ولقراءة النائم والساهي أيضا.
الباب الثاني :
القاعدة الثانية : اليقين لا يزال بالشك
أدلة العمل بهذه القاعدة:
ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " – رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال "شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" وفى الباب عن أبى سعيد الخدري وابن عباس.
وروى مسلم عن أبى سعيد الخدري قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا شك أحدكم في صلاته ، فلم يدرى كم صلى أثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن "
وروى الترمذي عن عبد الله بن عوف قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سها أحدكم في صلاته ، فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين ؟ فليبن على واحدة ، فإن لم يتقين ،صلى اثنتين أم ثلاثا ؟ فليبن على اثنتين ، فإن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا؟ فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم.
شرح الكلمات في القاعدة :
اليقين : الجزم بوقوع الشيء أو عدم وقوعه ، ويليه الظن الغالب وهو ترجيح أحد الطرفين . والشك هو التردد في وقوع الشيء وعدم وقوعه على السواء.
معنى القاعدة :
أن الأمر المتيقن بثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع، ولا يحكم بزواله بمجرد الشك، لأن الشك أضعف من اليقين فلا يعارضه.
ولما كانت الأحكام الفقهية تبنى على الظاهر ، لتعذر الوصول إلى اليقين في كثير من الأحكام ، أجاز الشرع اعتبار غالب الظن لندرة خطئه وكثرة إصابته.
يندرج تحت هده القاعدة قاعدة أخرى :
1- الأصل بقاء ما كان على ما كان:
ومن أمثلة دلك من تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو متطهر أو تيقن في الحدث وشك في الطهارة فهو محدث.
ونظير دلك أكل آخر الليل وشك في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل.
ومنها أكل آخر النهار بلا اجتهاد وشك في الغروب بطل صومه لأن الأصل بقاء النهار.
ومنها زوج الأب ابنته معتقدا بكارتها ، فشهد أربع نسوة بثيوبتها عند العقد لم يبطل لجواز إزالتها بإصبع أو ظفر والأصل البكارة.
ومنها ولدت وطلقها ، فقال طلقت بعد الولادة، فلي الرجعة ، وقالت قبلها فلا رجعة ولم يعينا وقتا للولادة ولا للطلاق ، فالقول قوله ، لأن الأصل بقاء سلطنة النكاح . فإن اتفقا على يوم الولادة كيوم الجمعة ، وقال طلقت يوم السبت وقالت يوم الخميس، فالقول قوله لأن الأصل بقاء النكاح يوم الخميس وعدم الطلاق ، أو على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فالقول قولها لأن الأصل عدم الولادة إذ ذلك.
القاعدة الثانية : الأصل براءة الذمة
في الأصل يولد الإنسان برئ الذمة من وجوب شيء عليه وكونه مشغول الذمة بحق خلاف الأصل.
ولذلك لم يقبل في شغل الذمة شاهد واحد ، ما لم يعتضد بآخر ، أو يمين المدعى ، ولذا أيضا كان القول قول المدعى عليه لموافقته الأصل.
وفى ذلك فروع :
منها : اختلفا في قيمة المتلَف حيث تجب قيمته على متلفه كالمستعير والغاصب والمودع المتعدي . فالقول قول الغارم لأن الأصل براءة ذمته مما زاد.
ومنها من صيغ القرض ملكتكه على أن ترد بدله ، فلو اختلفا في ذكر البدل، فالقول قول الآخذ ، لأن الأصل براءة ذمته.
قاعدة : قال الشافعي : الأصل ما انبنى عليه الإقرار أنى اعمل اليقين واطرح الشك ولا استعمل الغلبة.
وهذه قاعدة مطردة عند الشافعية ترجع إلى أن الأصل براء الذمة. ومن أمثلته ما يلي :
لو أقر لآخر بأنه وهبه أو ملكه شيئا فإن هذا لا يكون إقرارا بالقبض ، لاحتمال أنه اعتقد عدم توقف الهبة على القبض ، والأصل أن الإقرار لا يكون إلا على اليقين.
ومنها لو قال شخص لفلان عندي سيف في غمد أو له ثوب في صندوق، لا يلزمه الظرف بل يلزمه السيف دون الغمد والثوب دون الصندوق.
منها لو أقر لشخص بألف جنيه ، ثم أقر بألف جنيه في يوم آخر ، لزمه ألف فقط أو بأكثر ، دخل الأقل في الكثير.
القاعدة الثالثة : من شك في فعل شيئا أو لا؟ فالأصل أنه لم يفعل.
ويدخل في هذه القاعدة قاعدة أخرى وهى : من تيقن الفعل وشك في القليل أو الكثير حمل على القليل لأنه المتيقن ، اللهم إلا أن تشتغل الذمة بالأصل فلا تبرأ إلا باليقين. وهذا الاستثناء راجع إلى قاعدة ثالثة ذكرها الشافعي رضى الله عنه وهى أن ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.
ومن فروعها ما يلي :
لو سها المصلى عن شيء وشك هل سجد للسهو أم لا ؟ فإنه يسجد للسهو.
ومنها : لو شك المتوضئ في عدد مرات غسل الأعضاء وهل غسل مرتين أو ثلاثا، فإنه يبنى على الأقل ويغسل المرة الثالثة. وقال الجويني: لا يغسل الثالثة لأن تركه للسنة أهون من فعله للبدعة ، ولكن رد عليه بأن غسلها لا يكون بدعة إلا إذا علم أنها رابعة.
ومنها لو طلق الزوج زوجته وشك هل طلقها طلقة واحدة أو أكثر ، فإنه يبنى على الأقل.
ومنها لو وجبت عليه العدة ، لكنها شك هل هي عدة طلاق أو وفاة ، فإنه يلزمها الأكثر في هذه الصورة ، لأن المكلف ينسب إلى القصير ، بخلاف من يخرج من قبله سائل فـشك هل هو منى أم مذي ؟ فإنه يتخير.
منها عليه دين وشك في قدره ، لزمه إخراج القدر المتيقن كما قطع به الإمام ، إلا أن تشتغل ذمته بالأصل ، فلا يبرأ إلا مما تيقن أداؤه ، كما لو نسى صلاة من الخمس ، تلزمه الخمس.
القاعدة الرابعة : الأصل العدم
أن الشيء الذي يكون معدوما أصلا يستمر على العدم ، ما لم يقم دليل على وجوده ، فيحكم بوجوده بدليل.
ويندرج تحت هذه القاعدة فروع ، منها ما يلي :
لو حدث خلاف في ثبوت الوطء فقال شخص بثتوت الوطء وقال آخر بعدم الوطء، فيكون القول لمن ينفى الوطء غالبا ، لأن الأصل عدم الوطء.
منها القول قول عامل القراض في قوله "لم تمنعني عن شراء كذا" فقال صاحب المال "بل قد نهيتك عن شرائه" فالقول قول عامل القراض، لأن الأصل عدم النهي، ولأنه لو كان كما بزعمه المالك لكان خائنا، والأصل عدم الخيانة.
ومنها لو اختلفا في قدم العيب ، فأنكره البائع فالقول قوله، واختلفا في تعليله فقيل لأن الأصل عدمه في يد البائع ، وقيل لأن الأصل لزوم العقد وبهذا التعليل جزم الرافعي والنووي.
القاعدة الخامسة : الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن
الأصل في الصفات العارضة العدم ، فإذا وقع اختلاف في زمن حدوث الأمر ، ينسب إلى أقرب الأوقات حتى يثبت الأبعد ، لأن الوقت الأقرب قد اتفق الطرفان على وجود الحادث فيه ، وانفرد أحدهما بزعم وجوده قبل ذلك فوجود الأقرب متيقن وفى الأبعد مشكوك.
ومن فروعه :
رأى في ثوبه منيا ولم يذكر احتلاما لزمه الغسل على الصحيح . قال في الأم وتجب الإعادة كل صلاة صلاها من آخر نومه نامها فيه.
ومنها ضرب بطن حامل فانفصل الولد حيا وبقى زمانا بلا ألم ثم مات، فلا ضمان لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر.
وخرج عن ذلك صور :
منها لو كان المرض مخوفا ، فتبرع ثم قتله إنسان أو سقط من سطح فمات أو غرق حيث تبرعه من الثلث كما لو مات بذلك المرضى.
منها لو ضرب يده فتورمت وسقطت بعد أيام وجب القصاص.
قال السيوطي هذه لا تستثنى لأن باب القصاص كله كذلك، لو ضربه أو جرحه وتألم إلى الموت وجب القصاص.
القاعدة السادسة : الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم
أن كل شيء يكون مباحا ، ما لم يثبت نهى عنه يدل تحريمه ، فيكون كل شيء مباحا ما لم برد فيه تحريم بدليل يعارض له، ولا يحتمل التأويل ، فإذا ثبت دليل تحريمه يكون محرما ، وما لم يعلم فيه تحريم يجرى عليه حكم الحل فيكون حلالا.
هذا مذهبنا . وأما عند الإمام أبي حنيفة : فالأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه.
استدل الشافعية على هذه القاعدة بأدلة ، منها :
أولا : قوله صلى الله عليه وسلم " ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا".
ثانيا : قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". وفى لفظ " وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها".
ثالثا : ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء ، فقال الحلال هو ما أحل الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه"
ويتفرع من هذه القاعدة كثير من المسائل المشكل حالها :
منها الحيوان المشكل أمره وفيه وجهان ، أصحهما الحل كما قال الرافعي.
ومنها النبات المجهول تسميته ، قال المتولي يحرم أكله وخالفه النووي وقال الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعى فى التي قبلها الحل.
ومنها إذا لم يعرف حال النهر هل هو مباح أو مملوك ؟ هل يجرى عليه حكم الإباحة أو الملك ؟ حكى الماوردى فيه وجهين مبينين على أن الأصل الإباحة أو الحظر.
القاعدة السابعة : الأصل في الأبضاع التحريم
أن كل فرج يكون محرما حتى يثبت سبب الحل. وإذا تردد الأمر في امرأة بين أن يكون محرمة أو حلالا ، تغلبت فيها الحرمة ، فإن اختلطت امرأة محرمة بعدد من النساء محصورات في قرية يمتنع الاجتهاد ، لأن لأصل فيها التحريم، وليس الإباحة حتى يتأيد الاجتهاد باستصحابه ، إلا إذا كن غير محصورات ، فيجوز النكاح رخصة من الله تعالى حتى لا يغلق أمامه باب النكاح كما صرح به الخطابي.
ومن فروعه : أنه من وكل شخصا في شراء جارية ووصفها فاشترى الوكيل جارية بالصفة، ومات قبل أن يسلم للموكل ،لم يحل للموكل وطؤها ، لاحتمال أنه اشتراها لنفسه ، وإن كان شراء الوكيل الجارية بالصفات المذكورة ظاهرا في الحل ولكن الأصل التحريم ، حتى يتيقن سبب الحل كما ذكره الغزالي في الإحياء.
القاعدة التاسعة : الأصل في الكلام الحقيقة
أن كل الكلام يحمل على الحقيقة الموضوعة له، لأنها هي الأصل ولا يحمل على المجاز لأنه فرع منها ما لم توجد قرينة ترجح العمل بالمجاز، أو يتعذر العمل بالحقيقة ، فيحمل الكلام على المجاز. فإذا تساوى المعنيان في الاستعمال للفظ ولم يتعذر استعمال الحقيقة ، ولم يوجد ما يرجح استعمال المجاز ينصرف اللفظ إلى المعنى الحقيقي ، لا يحمل على المجازى ، وهذا هو الأصل.
ومنها لو قال شخص : هذه الدار لزيد ، كان هذا إقرارا منه بالملك لزيد ، فلو قال بعد ذلك أردت أن تكون مسكنا له لا يسمع له.
ومن فروعه :
لو أن شخصا أوقف ماله على حفاظ القرآن الكريم لا يدخل معهم من كان حافظا ونسيه ،لأنه ليس حافظا، ولا يعتبر حافظا إلا باعتبار ما كان، وهذا مجاز والأصل العمل بالحقيقة،
ومنها لو حلف شخص لا يأكل من هذه الشاة حنث إذا أكل من لحمها، لأنها الحقيقة، ولا يحنث إذا تناول لبنها، أو أكل شيئا من نتائجها، لأنه مجاز .
فإذا ترك العمل بالحقيقة تعين العمل بالمجاز ، لرجحانه ، مثل أن يحلف على أن لا يأكل من هذه الشجرة ، فأكل من ثمارها يحنث مع أنه مجاز ،ولا يحنث إذا أكل من أوراقها و أغصائها ، مع أنها الحقيقة.
فصل : التعارض بين الأصلين أو الظاهرين أو بين الأصل والظاهر
قال بعض متأخري الخرسانيين ، أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان، ففيها قولان :
قال النووي : وهذا الإطلاق ليس على ظاهره ، فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف ،كشهادة عدلين، فإنها تفيد الظن ويعمل بها بالإجماع ، ولا ينظر إلى براءة الذمة .
وكذلك أن هناك مسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف ، كمن ظن حدثا أو طلاقا أو عتقا أونحوه فإنه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف.
قال النووي : والصواب في الضابط ما حرره ابن الصلاح فقال : إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر وجب النظر في الترجيح ، كما في تعارض الدليلين ،. فإن تردد في الراجح ، فهي مسائل القولين ، وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف، وإن ترجح دليل أصل حكم به بلا خلاف.
أولا : تعارض الأصل والظاهر
ينقسم التعارض بين الأصل و الظاهر إلى أربعة أقسام :
ا- ما يرجح فيه الظاهر قطعا –
وضابطه أن يستند إلى سببٍ نصبه الشارع. ومثاله ؛ شهادة عدلين في مسألة السرقة . فإن الشهادة هنا تفيد الظن والأصل في السارق براءة الذمة، ولكن شهادة رجلين عدلين ظاهر في أنه قد سرق ، فيعمل بالظاهر بلا خلاف وهو إثبات السرقة بشهادة عدلين . فإن هذا الظاهر مستند إلى قوله تعالى { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم } . وهو معروف في شروط الشهادة إلا في شهادة الزنا.
ب- ما يرجح فيه الأصل قطعا-
وضابطه أن يعارضه احتمال مجرد. ومثال ذلك ؛ إذا تيقن أحد أنه متطهر ثم ظن أنه محدث، فإنه باق على طهارته ، لأن تيقَّنَه على طهارته أصل باق على ما كان عليه ، وظنه على الحدث ظاهر في الحدث،فلا يؤثر على ما تيقن عليه لأن هذا الظاهر مجرد احتمال ، فيعمل بالأصل قطعا وهو الطهارة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان.
ج- ما يرجح فيه الأصل على الأصح -
وضابطه أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف. وأمثلته لا تكاد تحصر ، منها لو أن كلبا أدخل رأسه في إناء به ماء ثم أخرجه وفمه رطب ، ولم يعلم ولوغه ، فلم يحكم بنجاسته على الأصح . فإن إخراجه رأسه وفمه رطب ظاهر في ولوغه الماء ، والأصل بقاء الماء على طهارته ، فتعارض بين الظاهر والأصل. فيعمل بالأصل على الأصح لأن الطهارة يقين والنجاسة مشكوك فيها ، لأن رطوبة فمه يحتمل كونها من لعابه نفسه ، فإن أخرج فمه يابسا فيكون طاهر قطعا.
د- ما ترجح فيه الظاهر علىالأصل-
وضابطه بأن كان سببا قويا منضبطا. مثاله، لو ألقى رجل شخصا في الماء أو في النار فمات، وقال الملقى أنه كان يمكنه الخروج من الماء أو النار بعد أن ألقاه فيها، واذكره ولي الميت، فالأصح أن يصدق الولي لأن الظاهر أنه لو تمكن من الخروج لخرج، وعدم خروجه سبب قوى لعدم تمكنه من الخروج، فترجح الظاهر على الأصل . ومقابل الأصح تصديق قول الملقى اعتمادا على أن الأصل براءة الذمة.
ثانيا : تعارض الأصلين
قال الإمام : ليس المراد بتعارض الأصلين تقابلهما على وزن واحد في الترجيح فإن هذا كلام متناقض ، بل المراد التعارضُ، بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظر لتساويهما ، فإذا حقق فكره رجح . ثم تارة يجزم بأحد الأصلين وتارة يجرى الخلاف ويرجح بما عضده من ظاهر أو غيره.
مثال ذلك لو أدرك المأموم الإمام وهو راكع وشك هل فارق الإمام حد الركوع قبل ركوعه ، قيل يكون مدركا للإمام في ركوعه
لأن الأصل بقاء ركوعه ، وقيل لا يكون مدركا له لأن الأصل عدم الإدراك وهذا القول هو الأصح.
منها : نوى الصيام، وشك في وقوع نيته قبل الفجر أو بعده، لم يصح صومه، لأن الأصل عدم النية. قال النووي "ويحتمل أن يكون فيها وجه آخر، أن يصح صومه لأن الأصل عدم بقاء الليل مثل من يشك في أدراك الركوع"
منها : إذا غاب العبد وانقطعت أخباره، فهل يجب زكاة الفطر على سيده؟ قيل تجب, لأن الأصل بقاء حياته، ولأن الثابت أن ذمة سيده قد شغلت بصدقة الفطر لعبده، فلا تزال إلا بيقين موته. وهذا القول هو الصحيح. وقيل لا تجب عليه صدقة فطر العبد الغائب، لأن الأصل براءة ذمة السيد.
ثالثا : تعارض الظاهرين
يكون تعارض الظاهرين مثل أن يقر امرأة بالزواج من رجل ، ويصدقها المقر له بالزوجية ، ففي المذهب الجديد يقبل الإقرار لتصديق الظاهر لهما فيما تصادقا عليه من الزوجية. وفي المذهب القديم ، إذا كان من بلدة واحدة يطالب كل منهما بالبينة ، لأن الظاهر السابق يعارضه ظاهر آخر ، وهو أنهما إذا كان من بلدة واحدة فإن حالهما يكون معروفا في الغالب ، ويسهل على كل منهما إقامة البينة.
الباب الثالث :
القاعدة الثالثة : المشقة تجلب التيسير
التعريف بالقاعدة
المشقة لغة : هي العناء، يقال شق الأمر شقا أي صعب وشق على فلان ، أوقعه في المشقة.
التيسير لغة : من اليسر وهو السهولة والتهيئة ,والميسور هو السهل.
ومعنى القاعدة
أن المشقة والصعوبة تجلب التيسير والسهولة. لأن الحرج مرفوع عن كل مسلم . لكن يشترط عدم مصادمة القاعدة لنص. فإذا تعارضت مع نص شرعي روعي النص دون جلب التيسير. و المشقة التي تجلب التيسير هي التي تنفك عنها التكاليف الشرعية، أما المشقة التي لا تنفك عنها التكاليف الشرعية. مثل المشقة في الجهاد أو الألم الناشئ من تنفيذ الحد , أو رجم الزناة , أو قتل البغاة والمفسدين في الأرض. فلا تؤثر في جلب التيسير. ولا تخفيف على أحد منهم.
الدليل على القاعدة
أصل هذه القاعدة والدليل عليها كثيرة من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة, منها ما يلي:-
1. من القرآن الكريم : قوله تعالى يُِريْدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُِرِِيْدُ بِكُمُ العُسْــرَ وقوله لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وقوله ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج.
2. من السنة الشريفة : قول الرسول صلى الله عليه وسلّم { إن الدين يسر ولا يشادّ الدين أحد إلا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والريحة} وقوله { بعثت بالحنيفة السماحة} وقالت عائشة رضي الله عنها قالت { ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما, ما لم يكن إثما , فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه}. وقوله صلى الله عليه الصلاة والسلام { يسروا ولا تعسروا} وقوله إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين} وقوله { إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا, ولم يجعله ضيقا }.
وأسباب التخفيف على المسلم في العبادات وغيرها سبعة :-
1. السفر.
2. المرض.
3. الإكراه.
4. النسيان.
5. الجهل .
6. العسر وعموم البلوى.
7. النقص.
أولا : السفر
قال النووي رخصه ثمانية :-
• منها ما يختص بالطويل قطعا وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة.
• منها ما لا يختص به قطعا وهو ترك الجمعة وأكل الميتة.
• منها ما فيه خلاف والأصح اختصاص به وهو الجمع.
• منها ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه به وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم.
• واستدرك ابن الوكيل رخصة تاسعة صرح به الغزالي وهي ما إذا كان له نسوة وأراد السفر فإنه يقرع بينهن , ويأخذ من خرجت لها قرعة , ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع وهل يختص ذلك بالطويل؟ وجهان : أصحهما لا.
ثانيا : المرض .
الرخص لأجل المرض كثيرة , ومن صوره ما يلي :
1. التيمم عند مشقة استعمال الماء,
2. عدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه أو يغسل أعضاءه .
3. القعود والاضطجاع والإيماء في صلاة الفرض.
4. الجمع بين الصلاتين على وجه اختيار البعض.
5. القعود في خطبة الجمعة.
6. التخلف عن الجماعة والجمعة مع حصول الفضيلة .
7. الفطر في رمضان للمريض وترك الصيام للشيخ الهرم مع الفدية بالإطعام.
8. الخروج من المعتكف وعدم قطع التتابع المشروط في الاعتكاف.
9. الإستنابة في الحج و في رمي الجمار .
10. إباحة محظورات الإحرام مع الفدية والتحلل على وجه .
11. التداوى بالنجاسات وبالخمر على وجه وإساغة اللقمة بها إذا غص بالاتفاق.
12. إباحة النظر حتى للعورة والسوأتان.
ثالثا : الإكراه
تعريفه لغة : الكَره بفتح الكاف هو المشقة والكُره بضم الكاف هو القهر .
تعريفه اصطلاحا : فعل يفعله المرء بغيره فينتفي رضاه . أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليةالمكره.
حكم تكليف المكره
اختلف علماء أصول الفقه في تكليف المكره على قولين :-
أولا : قال الإمام فخر الدين الرازي ومن معه, إذا انتهى الإكراه إلى حد إلجاء المكره لا يتعلق به حكم ، لعدم اختياره في هذه الحالة, وإذا لم يصل الإكراه إلى حد الإلجاء فيكون المكره مختارا ويكون مكلفا شرعا وعقلا.
ثانيا : قال الغزالي ، الإكراه يسقط أثر التصرف إلا في خمسة مسائل فإنه لا يسقط أثرها ، وهي :
1. إذا أسلم الحربي تحت الإكراه نعتبر إسلامه، ويكون مسلما.
2. إذا أكره شخص على أن يقتل غيره لا يقتله ويصبر، فإن قتله كان إثما, لأن المسلم محرم قتله، ويكون القصاص على المكره والمكره معا.
3. إذا أكره امرأة على أن ترضع غير ولدها، فيترتب على هذا الإرضاع حكمه وهو أن يكون هذا الرضيع ابنا لها ،ويحرم على جميع أولادها, لأنه أخ لهم من الرضاع.
4. إذا أكرهه على الزنا,فزنى يكون عليه الحد.
5. إذا أكرهه إنسان على طلاق زوجته ، فإنه يقع منه عليها.
وقد زاد الإمام الغزالي مساءل كثيرة . فقد استثنى الإمام النووي مائة مسألة،لا يؤثر الإكراه فيها, لكنه لم يعدها.
ما يباح بالإكراه وما لا يباح
متى يسع المكره فإن يفعل ما أكره عليه , ويباح له , ومتى لا يسعه ذلك ولا يباح له أن يفعل ما أكره عليه. تـحت هذا صور متعددة كما يلي :
أولا : ما يباح بالإكراه.
وله صور، منها :
1. الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضاءه وسعه ما أن يظهر التلفظ بما أكره عليه، ويكون التلفظ بها مباحا، وليس واجبا، مع اطمئنان قلبه بالإيمان لقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}
2. شرب الخمر يباح بالإكراه قطعا، استبقاء لحياته كما يباح لمن غص باللقمة أن يسيغها بالخمر،ولكن لا يجب شربها على الصحيح، كما في الروضة.
ثانيا : ما لا يباح بالإكراه
وله صور منها :
1. الزنا ولا يباح بالإكراه مطلقا بدون خلاف سواء أكان المكره رجلا أو امرأة لعظم مفسدته في المجتمع بل إن مفسدتها أفحش من الصبر على القتل.
2. اللواط ، ولا يباح بالإكراه مطلقا بدون خلاف كما صرح صاحب الروضة.
شروط تحقق الإكراه
لابد لكل ذلك من أمور هي :
1. أن يكون المكره قادرا على إيقاع ما يهدد به بولاية أو تغلب أو فرط هجوم.
2. أن يكون المكره عاجزا عن دفع ما هدده به بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة.
3. ظن المكره أنه إن امتنع عن فعل ما أكره عليه سيوقع به المكره ما توعده بفعله .
4. أن يكون الأمر الذي توعده به مما يحرم على المكره أن يفعله، ولذلك لا يكون إكراها لو قال ولي القصاص للجاني "طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك".
5. أن يكون ما توعده به عاجلا ولذلك لا يكون إكراها لو قال المكره "طلق امرأتك،وإلا قتلتك غدا".
6. أن يكون معينا ولذلك لا يكون إكراها لو قال له "اقتل زيد أو عمرا."
7. أن يترتب على فعل الشيء المكره عليه التخلص من الشيء المتوعد به.
8. يشترط في الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان.
ا
هل يكون أمر السلطان إكراها ؟
اختلف العلماء في تنزيل أمر السلطان منزلة الإكراه على قولين:
القول الأول : لا يكون أمر السلطان إكراها, لان الإكراه لا يكون إلا بالتهديد الصريح, مثل غير السلطان.
القول الثاني : أنه يعتبر إكراها , لوجود علتين هما :
1. أن الغالب من حال السلطان عند المخالفة السطوة.
2. أن طاعة السلطان واجبة في الجملة , وهذا يكون شبهة.
وقد صرح جمهور العلماء بما يدل على أن أمر السلطان لا ينزل منزلة الإكراه كما قال الرافعي.
وهذا الخلاف في أمر السلطان، وكذلك يجري الخلاف في أمر الزعيم والمتغلب للخوف من وقوع المحظور عند مخالفتهم.
الرابع والخامس : النسيان والجهل
الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه وابن أبي حبان والحاكم والطبري والدارقطني مع اختلاف في بعض الألفاظ . وهو متفق مع قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
وقد قال الفقهاء قاعدة “النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقا”. وأما مسقطه للحكم فإن النسيان والخطأ إن وقعا في ترك مأمور لم يسقط ، بل يجب تداركه ولا يحصل الثواب المترتب عليه، لعدم الائتمار وإن وقع في فعل منهي عنه، ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه فإن وقعا في فعل شئ فيه إتلاف لا يسقط الضمان. وإن وقع في فعل شيء يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرؤوا الحدود بالشبهات.
إذن، فهي على أربعة أقسام:
القسم الأول : إن وقعا في ترك مأمور به لم يسقط .
من فروعه
1. من نسي صلاة حتى انتهى وقتها أو نسي صوم رمضان حتى انتهى رمضان أو نسي زكاة وُجِبت عليه في ماله أو نسي نذرا أوجبه على نفسه وجب عليه أن يؤديه.
2. من أدّى مناسك الحج لكنه وقف بمكان غير عرفة وجب عليه قضاء الحج باتفاق لأن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج.
3. من نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكره يتوضأ ويعيد الصلاة لوجود الماء.
القسم الثاني : إن وقعا في فعل منهي عنه الذي لا يكون من باب إتلاف المال فلا شيء فيه .
من فروعه :
1. من شرب خمرا وهو يجهل أنها خمرا لا حد عليه ولا تعزير .
2. لو أتى بما يفسد العبادة ناسيا أو جاهلا مثل الأكل في رمضان ، فلا يفسد صومه.
3. وكذا لو اقتدى بمحدث جاهلا أو بمن عليه نجاسة فلا يفسد صلاته.
القسم الثالث : إن وقع فيه النسيان والخطأ في فعل شيء فيه إتلاف فلا يسقط الضمان.
من فروعه :
1. لو أتلف المشتري المبيع جاهلا قبل القبض يعتبر قابضا له في الأظهر.
2. لو نسي أن له زوجة فقال زوجتي طالق وقع الطلاق.
3. من فعل محظورات الإحرام التي هي الإتلاف مثل إزالة الشعر و الظفر و قتل الصيد جاهلا أو ناسيا لا تسقط عنه الفدية.
وخرج عن حكم المسائل السابقة ما إذا استحق القصاص على رجل فقتله خطأ فالأصح أنه لا يقع الموقع.
القسم الرابع : إن وقع فيه النسيان والخطأ ويوجب عقوبة فيكون شبهة يسقطها .
من فروعه :
1. من وطأ بشبهة :كأن وطأ أجنبية يعتقد أنها زوجة له فلا حد عليه لوجود الشبهة .
2. من قتل شخصا خطأ يكون عليه الكفارة والدية وليس عليه القصاص.
3. إذا اقتص الوكيل وكان جاهلا أن موكله قد عفا عن القاتل, فلا قصاص عليه ويكون عليه الدية في ماله والكفارة.
السادس : العسر وعموم البلوى.
وفيه فروع كثيرة :منها ما يلي:
1. الصلاة مع النجاسة المعفو عنها فيعفى عن اليسير عرفا من النجاسة من الدم والقيح والصديد ونحوها من النجاسات المعفو عنها.
2. ويعفى عن رزق الطير ولو كثر في مكان الطواف بالبيت لمشقة التحرز عنه بقيود هي أن يشق الاحتراز عنه، بحيث لا يمكنه العدول إلى غير مكانه ، وأن لا يتعمد الوقوف عليه وعدم وجود رطوبة في رجله ، أو كون الرزق رطبا.
3. ويعفى عن كل ما لا يمكن الاحتراز منه غالبا كطين الشارع ولو كان نجسا.
4. ويعفى عن محل استجماره في الصلاة في حق نفسه إذا لم يتجاوز الصفحة والحشفة.
5. ويعفى عن نجاسة لا يدركها النظر وعن كل ما ليس له نفس سائلة وعن لعاب الهرة وفمها، بخلاف الحيوان الذي لا يكثر اختلاطه بالناس
6. ومنه مشروعية التخيير في كفارة اليمين لتكراره بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع في نهار رمضان لندرة وقوعها ولأن المقصود هو الزجر عنها.
ولقد خرج بعض المعاملات من القاعدة الأساسية لها للعسر وعموم البلوى. منها :
1. "لا ينتفع إلا بما يملكه "
مما خرج من هذه القاعدة الإجارة, والإعارة والقرض فأجاز الشارع الانتفاع بما يملكه الغير .
2. لا يستوفى إلا من عليه حق.
مما خرج من هذه القاعدة والحوالة والوثائق على الدين والرهن والضامن أو الكفيل أو حجر على مفلس وأسلم أمواله إلى المديون فيجوز أن يستوفى بغير من عليه حق.
3. لا يأخذ حقه إلا كاملا
مما خرج من هذه القاعدة الصلح و الإبراء. فيجوز أن لا يأخذ حقه كاملا.
4. لا يتعطى أموره إلا بنفسه.
مما خرج من هذه القاعدة إجارة الأشخاص والوديعة والشركة والمساقات والمزارعة و المضاربة و الوكالة فيجوز أن تعطى أموره بغيره.
إنما جُوّز ذلك كله لحاجة الناس إليه ,فلو افترض بعدم جوازه لكان عسرا على الناس فيكون مشقة, والمشقة تجلب التيسير.
وكذلك جُوِّز بعض المسائل فيه غرر على الناس كبيع الرمان في القشر ،وبيع الموصوف في الذمة وهو السلم، والاكتفاء برؤية ظاهر الصبر أو الأنموذج المتماثل و رؤية ما يبرز من الدار عن الأساس مع نهي الشارع عن بيع الغرر للعسر في ذلك.
السابع : النقص .
هو نوع من المشقة لأن النفوس جبلت على حب الكمال. فكان المناسب هو التخفيف في التكليفات كما يلي :
1. عدم تكليف الصبي حتى يبلغ ولا المجنون حتى يفيق
2. عدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال مثل صلاة الجمعة وصلاة الجماعة والجهاد والجزية وإباحة لبس الحرير وحلي الذهب. ونحو ذلك.
تنبيه : لا أثر في المشقة التي لا تنفك عنها العبادة غالبا كمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة, وقتل الجناة إلا في مسألة جواز التيمم للخوف من شدة البرد. فلم يصب لأن المراد أن يخاف من شدة البرد الذي حصول مرض من الأمراض التي تبيح التيمم.
فائدة : الرخص أقسام :
1. ما يجب فعلها كأكل الميتة للمضطر.
2. ما يندب فعلها كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر أو مرض.
3. ما يباح فعلها كالسلم .
4. وما الأولى تركها كالمسح على الخف.
5. وما يكره فعلها كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل.
فائدة : في معنى هذه القاعدة قول الإمام الشافعي رضي الله عنه "إذا ضاق الأمر اتسع". وقد أجاب بها في مسألة ما إذا فقدت المرأة وليها في سفر فولت أمرها رجلا.
ولهم عكس هذه القاعدة وهي "إذا اتسع ضاق".
وجمع الغزالي في الإحياء بين القاعدتين بقوله "كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده."
الباب الرابع :
القاعدة الرابعة : الضرر يزال
التعريف بالضرر
الضرر : هو ضد النفع وهو المكروه فكل ما يكون مكروها من غير النفع هو ضرر.
معنى القاعدة
وقد جاءت القاعدة في صورة جملة خبرية في لفظها لكن يراد بها الإنشاء في المعنى ، والله تعالى قد أزال الضرر من كل التكاليف الشرعية, فلا يوجد تكليف فيه شيء من الضرر، بل قد رفعه الله تعالى ولن يأتي الضرر إلا من الإنسان لنفسه أو يوقعه على غيره. فأصبح مكلفا بأن يزيل الضرر عن نفسه ، لأنها ملك لله تعالى، ولا يصح له أن يوقع الضرر بغيره، لأنه لا يجوز إيقاع الضرر مطلقا لأنها مزالة ومرفوعة لأن الله حرمها.
الدليل على القاعدة.
الأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار".
أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا. وأخرجه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت.
معنى لا ضرر ولا ضرار.
لا نافية للجنس و ضرر اسمها مبني على الفتح وخبرها محذوف تقديره جائز, وضرر مصدر ضر. وضرار مصدر ضار والضرر فعل من واحد والضرار فعل اثنين.
وقيل الضرر أن يضره من غير أن ينتفع، والضرار أن يضره ابتداء.
وقيل هما بمعنى واحد أي لا تلحق ضررا بنفسك ولا بغيرك .
وقيل لا تضر غيرك ابتداء ولا جزاء إضراره بك. فلا يجوز أن تقابل الضرر بضرر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا تقابلوا الضرر بالضرر.
ينبني على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه:
منها الرد بالعيب ، وجميع أنواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط، والتعزير وإفلاس المشتري، وغير ذلك. والحجر بأنواعه ، والشفعة لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة. والقصاص، والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، والقسمة، ونصب الأئمة، والقصاص, ودفع الصائل، وقتال المشركين، والبغاة وفسخ النكاح بالعيوب، أو الإعسار, أو غير ذلك. وهي مع القاعدة التي قبلها متحدة أو متداخلة.
وتتعلق بهذه القاعدة قاعدة :
القاعدة الأولى : الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.
مما يترتب عليها ما يلي:
1. المضطر الذي يباح له الأكل من الميتة هو المضطر الذي يكون في مخمصة أي في شدة الجوع. بحيث لو لم يتناولها لهلك. ولا يباح له التناول إلا بقدر ما يسد به الرمق فقط أي بقدر ما يقي على حياته, ولا يتجاوز ذلك.
2. وإساغة اللقمة بالخمر - بأن تقف لقمة في بلعوم إنسان ولم يجد شيئا يتناوله إلا الخمر فإنه يجب عليه أن يشرب الخمر لإساغة اللقمة بشرط ألا يتجاوز في شربه حد الإساغة باختياره.
3. إذا أكره إنسان إنسانا آخر بقتله أو قطع عضو من جسمه على أن يتلفظ بكلمة الكفر بالله تعالى والعياذ بالله. وكان المكره قادرا على أن يوقع بالمكره ما توعده به وغلب على ظن المكره أنه إن لم ينطق بكلمة الكفر فسيوقع به المكره ما توعده به من قتل أو قطع عضو فإنه يجوز له التلفظ بكلمة الكفر تقية. لكن المكره لو صبر ولم ينطق بكلمة الكفر فإنه يكون مأجورا من ربه سبحانه تعالى, لأن خبيبا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، وقال هو رفيقي في الجنة.
4. إتلاف المال كأن تكون سفينة في عرض البحر محملة بأموال وعروض كثيرة ثم أوشكت على الغرق ولا منجاة لها إلا بتخفيف حملها من الأموال و العروض بأن نلقي بعضها في البحر فيكون في هذا تلفها. فالمحظور هنا هو إتلاف بعض المال، و الضرورة هي الوشك على الغرق لكل المال.
5. وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه كأن يكون لشخص دين على آخر وليس له بينة تثبت دينه، ولا يجد طريقا يسلكه ليوصله إلى أخذ دينه، ثم ظفر بمال للمدين فله أن يأخذ منه قدر حقه فقط بغير إذنه ولا يتجاوزه.
6. ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله, ولو لم يكن دفع الصائل مباحا لعم ضرره ، فأبيح دفعه لأن الضرر يزال, وقوله "ولو أدى إلى قتله" يعني به التدرج في دفعه.
القاعدة الثانية : ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها
معنى القاعدة ومدى ارتباطها بالقاعدة الأم : هذه القاعدة مرتبطة كسابقتها بالقاعدة الأم وهي "الضرر يزال" ومرتبطة بالقاعدة السابقة عليها وهي الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها ، وارتباطها بالقاعدة الأم وهي الضرر يزال أنه لو لم تقدر الضرورة بقدرها لوقع الضرر, لأنه عند تجاوزنا للقدر نقع في المحرم وهذا ضرر، فلا تتحقق معه قاعدة الضرر يزال فلا بد من أن يزال الضرر بقدره فقط.
وارتباطها بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها، أن هذه القاعدة عبارتها مطلقة ، حيث أنها تفيد أن الضرورات تبيح المحظورات مطلقا، فجاءت القاعدة "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" قيدًا لها.
الأصل في هذه القاعدة : وهي قوله تعالى {إنما حرم عليكم الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه} أي غير متجاوز حد الضرورة, وقوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه والقدر الزائد على حد الضرورة لا يكون مضطر إليه فلا يباح تناوله.
ومن فروع هذه القاعدة ما يلي :
1. المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد رمقه, والمضطر هو من كان في مكان لا يجد فيه طعاما حلالا يتناوله, وهو في حالة مخمصة، ولم يجد سوى ميتة، فإذا لم يأكل منها مات, فيكون له أن يأكل من الميتة بقدر ما يسد رمقه.ولا يتجاوز هذا القدر فإذا زاد عنه أثم لأن الزائد لا يزال باقيا على الحرمة.
2. ومن استشير في خاطب واكتفى بالتعريض كقوله لا يصلح لك لم يعدل إلى التصريح. فالضرورة هنا هي معرفة صلاحية الخطيب، وما دام المستشير يفهم بالتعريض الذي يدل على المراد فلا يجوز التصريح، لأنه يكون حينئذ مجاوزة لحد الضرورة.
3. ويعفى عن محل استجماره، ولو حمل مستجمرا في الصلاة بطلت. ولما كانت الضرورة من استعمال الحجر تقتصي أن يترك أثرا للنجاسة على المحل فقد عفى الشرع عن هذا الأثر. وأباح الصلاة معه بعد الوضوء للضرورة. أما أن يحمل مستجمرا فلا يباح ذلك، لأنه لا ضرورة لحمله، لأن محل استجمار الشخص المحمول تجوز حد الضرورة ، والضرورة تقدر بقدرها.
4. ويعفى عن ميت لا نفس له سائلة، فإن طرح ضر. فإذا وقع في الماء ما لا نفس له سائلة كالذباب ونحوه ، جاز استعماله ، لأن هذا ضرورة لعدم التحرز عنه، لأنه لا يستطيع لأحد أن يمنع وقوع الذباب ونحوه في الماء أو الشراب، أما إذا جمع الذباب ونحوه ثم طرحه في الماء أو الشراب فإنه لا يجوز استعماله ، لأنه يمكن التحرز عنه, فلا ضرورة له حينئذ، فيكون زائدا عن حد الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
5. ولو عالج أجنبي امرأة، وجب أن تستر جميع عورتها ولا تكشف أمامه إلا ما تقضي به الضرورة فإذا زادت عن حد الضرورة وكشفت أكثر أثمت المرأة وأثم الرجل المعالج.لأنه لا ضرورة حينئذ، والضرورة تقدر بقدرها.
مراتب التناول:
قال بعض العلماء، المراتب خمس:
1. الضرورة : بلوغه حدا إن لم يتناوله الممنوع هلك,أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام.
2. الحاجة : كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة.وهذا لا يبيح الحرام، ويبيح الفطر في رمضان.
1. المنفعة : كالذي يشتهي خبز البر، ولحم الغنم، والطعام الدسم.
2. الزينة : كالمشتهي الحلوى والسكر ، والثوب المنسوخ من حرير و قطان.
3. الفضول : التوسع بأكل الحرام، والشبهة.
تذنيب : قريب من هذه القاعدة "ما جاز لعذر بطل بزواله" كالتيمم يبطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة.
القاعدة الثالثة : الضرر لا يزال بالضرر.
قال ابن السبكي : وهو كعائد يعود على قولهم الضرر يزال ولكن لا بضرر فشأنهما شأن الأخص مع الأعم. بل هما سواء , لأنه لو أزيل بالضرر لما صدق "الضرر يزال"
ومن فروع هذه القاعدة :
1. عدم وجوب العمارة على الشريك في الجديد وعدم إجبار الجار على وضع الجذوع وعدم إجبار السيد على نكاح العبد والأمة التي لا تحل له.
2. ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر إلا أن يكون نبيا. فإنه يجوز له أخذه. ويجب على من معه بذله له،
3. ولا يقطع فلذةً من فخذه, ولا قتل ولده أو عبده ولا قطع فلذة من نفسه ، إن كان الخوف من القطع كالخوف من ترك الأكل أو أكثر.
4. ولو مال الحائط على الشارع أو ملك غيره لم يجب إصلاحه.
5. ولو وقع دينار في محبرة ولم يخرج إلا بكسرها، كسرت. وعلى صاحبه الإرش فلو كان بفعل صاحب المحبرة فلا شيء .
قال السبكي : استثنى من ذلك ما لو كان أحدهما أعظم ضررا. منها ما يلي :
1. ولو وجد المضطر ميتة وطعام غائب فالأصح أنه يأكل الميتة، لأنها مباحة بالنص وطعام الغير بالإجهاد.
2. ولو كان له عُشْر دار لا يصلح للسكني والباقي لآخر وطلب صاحب الأكثر القسمة، أجيب في الأصح وإن كان فيه ضرر شريكه.
3. ولو أحاط الكفار بالمسلمين ولا مقاومة بهم. جاز دفع المال إليهم. ولو وقع في ماء تحرقه ولم يخلص إلا بماء يغرقه ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات النار فله الانتقال إليه.
4. منها الحدود، فإنها لو لم تقم في المجتمع لفشت الرذائل بين الناس ، ولو أقيمت لكان إضرارا بمن وقعت عليه , لأن عقوبة الحدود ضرر يلحق به . فقد ثبت مشروعية الحدود فلا نظر إلى ضرر يلحق بمن وقع عليه الحد, لإزالة ضرر يلحق بالمجتمع. فالضرر يزال بالضرر.
5. منها الفسخ بعيب النكاح، ولو وجد الزوج أو الزوجة عيبا من العيوب كان له أو لها الحق أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد، وهذا ضرر يقع على الزوج أو الزوجة لكنه ضرر خفيف بالنسبة لحالة ما إذا لم يفسخ العقد مع ثبوت هذا العيوب بالزوج.
القاعدة الرابعة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
معنى القاعدة : إذا دار الأمر بين ضررين فيتحمل الأخف، لإزالة الأشد. وهذه القاعدة نشأ من التقييد السابق في قول ابن السبكي "ويستثنى من ذلك ما لو كان أحدهما أعظم ضررا ". والدليل على هذه القاعدة هو نهيه صلى الله عليه وسلم للصحابة عن زجر الرجل الذي كان يبول في المسجد.
ومثالها :
1. جواز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين، إذا كان ترجى حياته،
2. وإذا وقع إنسان بين أمرين، أحدهما أهون من الآخر، كما لو هدد بالقتل على أن يرمي بنفسه من مكان مرتفع عن الأرض مقدار ثلاثة أمتار, يجب عليه رمي نفسه لاحتمال النجاة فيختار أهون الشرين.
3. ولو هدد بالقتل أو رمي بنفسه من مكان عال كالمنارة، له الخيار لكون المفسدتين متساويتين.
4. ويجوز السكوت عن إنكار المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم لقوله صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
5. ورمى الكفار إذا تترسوا بنساء المسلمين أو صبيان أو بأسرى المسلمين, فأبيح لجيش المسلمين أن يضربوا النساء والصبيان إذا لا بد من ذلك, وهذا مخالف لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولكن أبيح للضرر لدفع الضرر الأعظم والأشد منه، الذي يترتب على عدم رميهم انتصار جيش الكفار على جيش المسلمين ، مما يعود غلى الأمة الإسلامية ، بأضرار عظمى لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى، فارتكبنا الضرر الخفيف لدفع الضرر الأعظم والأشد منه.
القاعدة الخامسة : درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
معنى القاعدة : فإذا تعارض مفسدة و مصلحة ، قدم دفع المفسدة غالبا، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"
ومن ثم سومح في ترك بعض الواجبات بأدنى مشقة. كالقيام في الصلاة والفطر والطهارة ولم يسامح في الإقدام على المنهيات، وخصوصا الكبائر.
ومن فروع ذلك ما يلي :
1. المبالغة في المضمضة والاستنشاق مسنونة وتكره للصائم إعمالا لقاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح فنجد أن المضمضة والاستنشاق سنة من سنن الوضوء يثاب فاعلها وفيهما تحقيق مصلحة له، فكان فعلهما في الوضوء مطلوبا على وجه السنة، ولكن قد ورد عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " ولا تبالغ ما دمت صائما" وهذا يمنع المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، فدل على أن دفع مفسدة الصيام مقدم على جلب مصلحة المبالغة في المضمضة والاستنشاق من أجل إحراز الثواب، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
2. وتخليل شعر اللحية الكثيفة لغير المحرم بحج أو عمرة لا شيء فيه أما للمحرم فقد يؤدي إلى إسقاط بعض شعرات من اللحية أثناء التخليل وهذا مفسد ويوجب دما على فاعله فيكره له تخليل اللحية في الوضوء عند غسل الوجه دفعا للمفسدة لأن الأصل إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة عملا بقاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
3. إذا فقد المصلى الماء والتراب ، كأن يكون محبوس بمكان ليس به ماء ولا تراب فيكون فاقدا للطهورية وهي شرط الصلاة، فإذا لم يصل فعدم صلاته مفسدة مرجوحة ، وإذا صلى بدون طهارة مصلحة راجحة فتقدم المصلحة الراجحة لغلبتها على المفسدة المرجوحة.فيصلي من غير طهارة ولا يترك الصلاة مع وجوب الإعادة عليه عند وجود أحد الطهورين.
4. منه الكذب مفسدة محرمة ، ومتى تضمن جلب مصلحة تربو عليه جاز، كالكذب للإصلاح بين الناس وعلى الزوجة لإصلاحها.
الباب الخامس :
القاعدة الخامسة
الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
معنى القاعدة :
قال الدكتور عبد الفتاح محمد النجار "ليس كل حاجة تنزل منزلة الضرورة، كما تشعر عبارة السيوطي في هذه العبارة. ولكن قد تنزل بعض الحاجات منزلة الضرورة، فتبيح الحاجة ما تبيحه الضرورة، وتجعل الممنوع مباحا، ولهذا كان الأصح التعبير ب "قد" فيقال {الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة}. وقوله "عامة" أي تعم جميع الناس، وقوله "خاصة" أي تخص بعض المكلفين أو أحدهم.
الأولى : وهي الحاجة العامة .
من الحاجة العامة جواز الإجارة. فإنها قد شرعت وجازت على خلاف القياس، لأن الإجارة قد ورد فيها العقد على منافع ليست موجودة، بل هي معدومة عند التعاقد عليها، والأصل في العقود أن تقع على أشياء موجودة وقت التعاقد عليها ولكن لما كانت حاجة الناس إليها عامة فقد أجازها الشارع على خلاف القياس.
ومن أمثلة ذلك السلم ، فالأصل أن بيع السلم لا يصح ، لأنه بيع معدوم وقت التعاقد فيؤدي إلى الجهالة والغرر، إلا أن الناس جميعا يحتاجون لهذا البيع فأجازه الشارع تنزيلا للحاجة منزلة الضرورة، ودليل الجواز قوله صلى الله عليه وسلم "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم." وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إنها نزلت في السلم وقد أجمع الصحابة على جوازه.
ومنها إباحة النظر إلى أجنبية محرمة شرعا وقد نهى الله تعالى عنه بقوله {قل للمؤمنين يغضضن من أبصارهم}، وهذا مبدأ عامة قررته الشريعة الإسلامية حتى تصان المرأة في المجتمع الإسلامي، وتحفظ الأعراض من كل عبث، لكن قد توجد بعض الحاجات التي تدعو إلى النظر إلى وجه المرأة الأجنبية أو كفيها، مثل التعامل بالبيع أو الشراء وسائر المعاملات المالية ونحوها، وكذلك العلاج والشهادة، فإنه يصح للطبيب المعالج أن ينظر إلى موطن الداء فقط ولا يتجاوزه، وإلا يكون آثما، وكذلك في شهادة المرأة أمام القضاء، يصح أن يرى منها الوجه والكفين للحاجة وقت الشهادة، وإنما جاز النظر إلى الأجنبية في هذه المواضع وأمثلتها للحاجة التي تدعو إلى ذلك فنزلت منزلة الضرورة.
فكل من هذه الأمثلة ونحوها إنما جوزت على خلاف القياس، لأن الإجارة ونحوها جازت وصحت خلافا للقياس لأننا لو قسنا كلا منها على غيرها لكانت باطلة، لاختلال شرط وجود المعقود عليه وقت التعاقد ، وهو فيها كلها غير موجود، إلا أنها جازت لحاجة الناس إليها، جميعا ، فدعت حاجتهم إليها فنزلت منزلة الضرورة.
ومن الثانية : وهي الحاجة الخاصة.
ومن أمثلة ذلك الأكل من الغنيمة في دار الحرب جائز للحاجة ولا يشترط للآكل أن لا يكون معه غيره، فالأصل أن اخذ شيء من الغنيمة قبل توزيعها محرم وغلول، قال تعالى وما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة آل عمران 161 - لكن لما كان المجاهدون في حاجة إلى عوامل تشجعهم على الاستمرار في القتال، وتقوى عزمهم على الكر و الفر وملاحقة الأعداء، أباح الشارع لهم أن يأكلوا من الغنيمة التي غنمها كل منهم، ولو كان معه طعام من جنس ما غنمه ، لأن الحاجة إلى إدخال السرور عليهم ما زالت مستمرة، ويظل المجاهد يأكل مما غنمه حتى يصل إلى عمران المسلمين، فإذا وصل إليه حرم عليه الأكل من الغنيمة ، لأنه لا حاجة الآن وأصبح ما غنموه ملكا للمسلمين عامة.
الباب السادس :
القاعدة السادسة : العادة محكمة
التعريف بالقاعدة
العادة : أصلها من العود ، يقال عاد إلى الأمر رجع إليه واعتاد الأمر وتعوده صار له عادة، وسميت العادة عادة لأن صاحبها يعاودها ، ويرجع إليها المرة بعد الأخرى، ففي العادة معنى التكرار الذي يؤكد أن الأمر حدث مكرر، ولم يكن مجرد صدفة.
العرف : ما ألفه الناس وساروا عليه، واعتادوا الناس في أمورهم، فعلا كان أو قولا، ولا يعارض الكتاب أو السنة، فالعرف الفعلي أو العملي مثل تعارف الناس ببيع التعاطي، بدون صيغة لفظية للإيجاب والقبول، والعرف القول مثل تعارف الناس على أن السمك لا يطلق عليه لفظ اللحم مع أن القرآن الكريم قد سماه لحما في قوله تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا.
والفرق بين العادة والعرف، أن العادة تكون مرتبطا بشخص واحد أو أشخاص محدودين، فلا تكون عرفا في هذه الحالة ، لأن العرف إما عام للناس جميعا في عصر معين في جميع البقاع وإما خاص بإقليم أو طائفة، وهو أيضا يعتبر عاما لكل أهل الإقليم أو الطائفة، وهما يجتمعان فيما لو كانت العادة عامة وليست خاصة بفرد أو أفراد محددين، وتنفرد العادة فيما إذا كانت خاصة بفرد، فكل عرف عادة ، وليس كل عادة عرفا.
والعرف منه عام ومنه خاص، وأما العام، فهو إذا كان الناس جميعا في جميع البقاع في عصر معين يتفقون على العمل به، مثل تعارف الناس على دخول الحمام العام دون تقدير أجر محدد أو تعيين مدة معينة للبقاء فيه. وأما الخاص، فهو إذا كان الناس في بلد من البلدان، أو إقليم من الأقاليم، أو طائفة من الطوائف يتفقون على العمل به، مثل تعارف أهل العراق على إطلاق لفظ الدابة على الفرس، مع أنها في اللغة اسم لكل ما يدب على الأرض.
معنى القاعدة.
أن العادة تجعل حكما لإثبات حكم شرعي. أن ما تعوده الناس من العادات السليمة التي لا تتصادم مع نص من كتاب أو سنة أو غيرهما من المصادر الشرعية قد جعلها الله تعالى منوطا بها كثير من الأحكام ، فهي محكمة مادامت الطباع السليمة تقبلها.
الدليل على القاعدة.
قال القاضي حسين أصلها قوله صلى الله عليه وسلم " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن." ومعنى الحديث أن الأمر الذي يجري المسلمون على اعتباره من الأمور الحسنة يكون عند الله أمرا حسنا ، يرجع إليه، ويعمل به. وفي قوله "ما رآه المسلمون " ما يشير إلى أن المراد عادات الناس المتمسكين بدينهم الذين يتحرون الكمال في تصرفاتهم، لا عادات الناس من أهل السوء. التي لا تمت لأخلاق الإسلام بصلة.
ولقد تكلم العلائي في سند هذا الحديث وقال "إنه ليس مرفوعا، وإنما هو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه. كما هو معلوم فإن كلام الصحابة يكون حجة في كل مجال للرأي فيه".
والدليل من القرآن قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} فقوله تعالى {ويتبع غير سبيل المؤمنين} فيه تحديد باتباع سبيل غير المؤمنين ، وهذا يتضمن الأمر باتباع سبيل المؤمنين، وسبيل المؤمنين هو تعودوا عليه في أعمالهم وأقوالهم، فيكون في الآية معنى قاعدة العادة محكمة لأنها توجب اتباع سبيل المؤمنين وطريقتهم وهو ما تعارف عليه المؤمنون حجة يترتب عليه الحكم الشرعي، فالآية دليل على القاعدة، كما أن الحديث قبلها دليل عليها كذلك.
الفروع التي تندرج تحت هذه القاعدة.
اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثرة ، منها ما يلي :
1. فمن ذلك سن الحيض ، فقد استقر الإمام الشافعي عادات الناس وتتبع أقوالهم في أقل سن تحيض فيها المرأة، فأخبروه بأنها لا تحيض لأقل من تسع سنين هلالية، فبنى حكمه على استقراء العادة والعرف، فكان دليله في تحديد أقل سن للحيض للمرأة هو العادة، وكانت العادة محكمة ، والاستقراء الكامل بتتبع عادات جميع نساء الدنيا مستحيل، وإنما الممكن الاستقراء للكثرة منهن، وعلى هذا فتكون دلالته ظنية، ويكون العرف حينئذ هو الأساس الذي بنى عليه الحكم، فإذا وجد من يدعي أن بنتا قد حاضت في سن أقل من التاسعة لكثير مثل السادسة أو السابعة، فإن هذا لا ينبني عليه حكم، لأنه قد ورد على خلاف العادة والعرف فلا يلتفت إليه.
2. في تقدير القليل والكثير المبطل للصلاة، فيرجع في تقديرها للعرف والعادة، فما يعتبره الناس كثيرا من الأفعال في الصلاة، ويعدون من يفعلها أثناء صلاته قد خرج عن حدود القلة إلى الكثرة، فإن صلاته تكون باطلة، وهذا بناء على تقدير الناس للكثرة في عرفهم وعادتهم، فالعادة محكمة.
3. يشترط في صحة صلاة الجمعة الموالاة عرفا بين الخطبتين، بان لا يفصل بينهما بفاصل طويل عرفا، فلو فرق بين الخطبة الأولى والثانية، بفاصل طويل عرفا لم يصح. فطول الفصل وقصره يحكم فيه العرف والعادة.
4. من السنة الكفاية في الإسلام إلقاء السلام والرد الفوري عرفا على السلام واجب كفائي، حتى يسمع من ألقى السلام رد غيره عليه لأن هذا من دواعي المحبة والترابط بين المسلمين، والمرجع في تحديد الفاصل بين إلقاء السلام وبين الرد عليه هو العرف والعادة، فإذا عد الناس الفاصل بين السلام ورده فاصلا كبيرا في عرفهم وحسب عادتهم كان كذلك، أما إذا عدوه عرفا فاصلا قليلا، فلا تأثير له، فالعرف والعادة قد حددا الفاصل الكثير من الفاصل القليل، لأن العادة محكمة.
5. وتقطع يد السارق بشروط ، من شروطه أن يكون المال المسروق محرزا، فلا تقطع يده إذا سرق مالا غير محرز، فقد تعارف الناس وجرت عادتهم على أن لكل مال معين حرزا يحفظ فيه ويكون خاصا به ، فالذي يحدد الحرز لكل مال مسروق هو العرف والعادة، لأن العادة محكمة.
6. وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة، بأن يكون قد اعتاد أن يهدي لغيره في كل مناسبة من المناسبات ثم عين المهدى إليه في القضاء فإنه يجوز له أن يستمر في إهدائه له كعادته بعد أن يتولى القضاء ولا حرج في ذلك على أن لا يزيد عن القدر الذي كان يهديه إليه قبل تولية القضاء، لأن الزيادة محرمة يجب ردها، لأنه يهديه الآن جريا على عادته معه قبل تولية القضاء وليس لأنه قد تولى القضاء الآن، أما إذا لم يكن له عادة بإهدائه قبل تولية القضاء فيحرم عليه الإهداء له، لأنها الآن للقضاء لا للعادة. وبهذا نجد أن العرف والعادة يحددان حل أو حرمة الهدية للقاضي، والعادة محكمة.
إنما تعتبر العادة إذا اطردت
قال السيوطي : ”إنما تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف". أي أن العادة تكون محكمة إذا اطردت وعمت، ولا يطرأ عليها تخلف ولا رجوع فإن اضطربت وتخلفت فلا تعتبر محكمة، لعدم اطرادها، ولا بد من النص لأن العادة حينئذ غير محكمة.
ومن فروع ذلك ما يلي :
1. استأجر للخياطة والنسخ والكحل ، هنا عقد إجارة، فاستأجر للخياطة والنسخ والكحل فعلى من الخيط والحبر والكحل؟ ففيه خلاف بين العلماء، صحح الرافعي في الشرح الرجوع فيه إلى العادة. فإن اطردت حكمت، وإن اضطربت ، وجب البيان، وإلا فتبطل الإجارة للجهالة. ومخالفة العرف تبطل العقد.
2. إذا باع إنسان شيئا بدولارات مثلا وأطلق، فإنه إذا اطردت العادة حكمت ونزل على النقد الغالب في البلد، وأما إذا اضطربت العادة في البلد وجب البيان، وإلا يبطل البيع لعدم معرفة الثمن.
3. غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه، انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح. مثاله من قال ” بعتك هذا الكتاب بعشر كيلو ملح " ينصرف الثمن إلى ذلك بحسب العادة. وذلك في الأصح قياسا على النقد. وأما مقابل الأصح فإن العروض غيرُ النقد فلا ينصرف الثمن إلى العروض المعروف في العادة، ولكن لابد من البيان لوجود فرق بين المقيس وهو العروض والمقيس عليه وهو النقود.
4. منها المدارس الموقوفة على درس الحديث ، ولا يعلم مراد الواقف فيها، هل يدرس فيها علم الحديث الذي هو معرفة المصطلح كمختصر ابن الصلاح ونحوه، أو يقرأ متن الحديثين؟ كالبخاري والمسلم ونحوهما ويتكلم على ما في الحديث من فقه وغريب ولغة ومشكل واختلاف كما هو عرف الناس الآن.
فصل : في تعارض العرف مع الشارع
وهو نوعان :
أحدهما : أن يتعارض العرف مع الشرع ولم يكن الشرع قد تعلق به حكم وتكليف فإنه يقدم عرف الاستعمال على الاستعمال الشرعي.
ومن فروع ذلك ما يلي :
1. إذا حلف إنسان أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث في يمينه مع أن الله تعالى سماه لحما في قوله تعالى {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا} لأن القرآن الكريم حين سماه لحما لم يجعل التسمية مرتبطة بحكم، والعرف لا يطلق على السمك لحما، ويقدم العرف، لأن القرآن الكريم لم يربط التسمية بحكم، فلا يحنث الحالف حينئذ.
2. إذا حلف إنسان أن لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج لم يحنث بالجلوس على الأرض وإن سماه الله بساطا في قوله {والله جعل لكم الأرض بساطا} ولا تحت السماء وإن سماها الله تعالى سقفا في قوله {وجعلنا السماء سقفا محفوظا} ولا في الشمس وإن سماها الله سراجا في قوله {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا}.
والثاني : أن يتعارض به العرف مع الشرع ويتعلق به حكم فيقدم على عرف الاستعمال.
ومن فروع ذلك ما يلي :
1. لو حلف شخص ألا يصلي ، لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود، لأن الصلاة معناها في الشرع أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وقد تعلق بها حكم شرعي وهو فرضها خمس مرات في كل يوم وليلة، وعلى هذا فلا يحنث إلا بذات الركوع والسجود وهو الصلاة، المفروضة على المسلمين فلو صلى صلاة غيرها لا يحنث مثل صلاة النصارى.
2. إذا قال الزوج لزوجته" إن رأيت الهلال فأنت طالق” فرآه غيرها وعلمت به طلقت، وإنما طلقت هنا مع أنها لم تر الهلال وإنما رآه غيرها لأن الرؤيا في الشرع ليست بصرية، وإنما هي علمية، فهي بمعنى العلم ، لأنها لو كانت بصرية لما وجب الصيام إلا على من يرى الهلال ببصره فقط، ولا يجب على من لم يره ببصره، مع أن هذا مخالف للإجماع، حيث يجب الصيام على من يرى الهلال ببصره وعلى كل من أُخبِر بالرؤية ، وعلى هذا فيقدم معنى الشرعي لأنه عرف أهل الشرع.
قال السيوطي : ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي التخصيص، اعتبر خصوص الشرع في الأصح كما يلي:
1. فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة، لأن اللحم يطلق عامة على كل لحم يؤكل أو لا يؤكل، إلا أن الشرع خصصه بالمأكول والمزكي يؤكل لأنه حلال بخلاف غير المزكي فهو محرم ولا يؤكل ، فيكون الشرع قد خصص عموم اللفظ فيقدم على العرف اللغوي على الأصح. وفي الرأي المقابل ، يحنث عملا بعموم اللفظ.
2. لو حلف لا يشرب ماء لم يحنث بالمتغير كثيرا بزعفران ونحوه ، فإن الماء في اللغة يتناول كل ماء تغير أم لم يتغير، وقد خص الشرع الماء بالمطلق الذي لم يتغير ، أو الذي تغير تغيرا لا يمنع من إطلاق اسم الماء عليه، فإذا تغير الماء تغيرا كثيرا لا يحنث الحالف بشربه، لأنه لا يسمى ماء شرعا، وكذلك لو كان الماء متنجّسا لأنه لا يسمى ماء شرعا.
فصل : في تعارض العرف مع اللغة.
حكى صاحب الكافي وجهين في المقدَّم:
أحدهما : قدمت الحقيقة اللفظية عملا بالوضع اللغوي ، وإليه ذهب القاضي حسين.
ثانيهما : الدلالة العرفية لأن العرف يحكم في التصرفات سيما في الأيمان. وإليه ذهب البغوي. قال ، فلو دخل دار صديقه فقدم إليه طعاما، فامتنع، فقال إن لم تأكل فامرأتي طالق، فخرج ولم يأكل ، ثم قدم اليوم الثاني ، فقدم إليه ذلك الطعام فأكل ، فعلى الأول لا يحنث وعلى الثاني يحنث.
وقال الرافعي في الطلاق، إن تطابق العرف والوضع فذاك، وإن اختلف فكلام الأصحاب يميل إلي الوضع، والإمام والغزالي يريان اعتبار العرف وقال في الأيمان ما معناه إن عمت اللغة قدمت على العرف.
وقال غيره، إن كان العرف ليس له في اللغة وجه البتة، فالمعتبر اللغة، وإن كان له فيه استعمال ، ففيه خلاف وإن هجرت اللغة حتى صارت نسيا منسيا، قدم العرف.
ومن فروع المخرجة على ذلك ما يلي :
1. حلف لا يشرب ماء حنث بالمالح، وإن لم يعتد شربه، اعتبارا بالإطلاق، والاستعمال اللغوي.
2. منها لو قال "زوجتي طالق" لم تطلق سائر زوجاته عملا بالعرف، وإن كان وضع اللغة يقتضي ذلك، لأن اسم الجنس إذا أضيف عم وكذلك قوله، "الطلاق يلزمني" لا يحمل على الثلاث وإن كانت الألف واللام للعموم.
فصل : في تعارض العرف العام مع العرف الخاص.
الضابط فيه أنه إن كان المخصوص محصورا ، لم يؤثر ، كما لو كانت عادة امرأة في الحيض أقل مما استقر من عادات النساء، ردت إلى الغالب في الأصح، وقيل ، تعتبر عادتها.
وإن كان غير محصور اعتبر، كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلا و مواشيهم نهارا فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس؟ وجهان، الأصح نعم.
العادة المطردة في ناحية، هل تنزل عادتهم منزلة الشرط؟
في الأشباه والنظائر لابن نجيم ، قال في إجارة الظهيرية "والمعروف عرفا كالمشروط شرطا".
فيه صور :
1. منها لو جرت عادة قوم بقطع الحِصرم قبل النضج، فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع؟ وجهان، أصحهما لا، وقال القفال نعم.
2. لو دفع ثوبا مثلا إلى خياط ليخيطه ولم يذكر أجرة عادته بالعمل بالأجرة، فهل ينزل منزلة الشرط الأجرة؟ خلاف ، والأصح في المذهب، لا، واستحسن الرافعي مقابله.
3. منها، لو اعتاد بيع العينة لأن يشتري مؤجلا لأقل مما باعه نقدا فهل يحرم ذلك،؟ وجهان، أصحهما، لا. بيع العينة هو أن يبيع واحد لآخر بثمن بشرط أن يشتريه البائع بعد مدة حددها بثمن أقل مما اشتراه منه الآخر أي أن يشتري مؤجلا بأقل مما باعه نقدا، فإن قلنا إن العادة المطردة تنزل منزلة الشرط صح البيع, وإن قلنا أنها لم تنزل منزلة الشرط لم يصح البيع لأن المقتضى العقد بين البائع والمشتري أن تملك العين للبائع، فله للمشتري و له حق البيع متى شاء فكيف يشرط على المشتري البيع في وقت محدد وفي ذلك تقييد للملكية.
العرف الذي تحمل عليها الألفاظ، إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.
قال الرافعي : العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا , ولا يؤثر في التعليق والإقرار بل يبقى اللفظ على عمومه فيها. أما في التعليق فلقلة وقوعها ,أما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب سابق، وربما يقدم الوجوب على العرف الغالب فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد قبل.
ومن الفروع المخرجة على هذا الأصل ما يلي :-
1. مسألة البطالة فإذا استمر عرف بها في أشهر مخصوصة حمل عليه ما وقف بعد ذلك لا ما وقف قبل هذه العادة.
2. ومنها كسوة الكعبة ، نقل الرافعي عن ابن عبدان، أنه منع من بيعها وشرائها، وقال ابن الصلاح، الأمر فيها إلى رأي الإمام، واستحسنه النووي . وقال العلائي وغيره الذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت بأنها تبدل كل عصر فلا تردد في جوازه. وأما ما اتفق في هذا القرن من وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة فلا يتردد في جواز ذلك لأن الوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها.
قال الفقهاء : كل ما ورد به الشرع مطلقا ، و لا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف.
ومثلوه بالحرز في السرقة المقطعة اليد، فإن الشارع لم يحدد عن كيفية الحرز وكذلك اللغة لم تحددها، فتبين أن كيفية الحرز ترجع إلى العرف، فما تعارف الناس وجرت عادتهم على أنه مال محرز، فتقطع بذلك العادة لأن العادة محكمة. وكذلك مسألة التفرق في البيع ، والقبض ووقت الحيض وقدره، والإحياء وغيرها مما لم يحدد الشرع ولا اللغة على ذلك, فتبين أنه رجع إلى العرف.
وقالوا في الأيمان، إنها تبنى أولا على اللغة ثم على العرف, أي أنه إذا لم يرد في الشرع تحديدها، فإنها تبنى على اللغة، فإن لم يوجد في اللغة ما يحددها فإنها تبنى على العرف والعادة.
وخرجوا عن ذلك في مواضع لم يعتبروا فيها العرف مع أنها لا ضابط لها في الشرع ولا في اللغة،
ومنها المعاطاة على أصل المذهب, لا يصح البيع بها ولو اعتيدت، لا جرم أن النووي قال المختار الراجح دليلا الصحة، لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ فوجب الرجوع إلى العرف كغيره، من الألفاظ.
الخاتمة:
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا في تقديم هذه المذكرة، وأن تكون نافعة لكل قارئها. ولعلنا استطعنا في مذكرتنا هذه أن نصل إلى فهم القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها. ولعل القارئ الكريم يستطيع الوصول إلى حقيقة القاعدة بعد ما اطلع على هذه القاعدة. علما، فإني أقترح للقارئ الكرام أن يطلع على كتاب "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي وهو الكتاب الذي قد لخصته، لأن الفروع والأحكام الذي ذكره الإمام السيوطي أكثر مما ذكرته في التلخيص.
ولعلنا استطعنا فهم الأحكام الفقهية فهما لا ينحرف عن الكتاب والسنة الشريفة، وكذلك الإجماع والقياس. لأن القواعد الفقهية كما ذكرتها آنفا، أحكام أغلبية غير مطردة ، وهى إنما تصور الفكرة الفقهية المبدئية لحل القضايا.
وأخيرا، ندعو الله عز وجل أن يعلمنا ما هو لم نعلم، وأن يفقهنا ما يعلمنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه هو العليم الحكيم. وأساله أن يزيدنا علما، وأن يرزقنا فهما، وأن يبعدنا من الخطإ والنسيان وهو أرحم الراحمين.
Langgan:
Catat Ulasan (Atom)
Tiada ulasan:
Catat Ulasan